في 10 ديسمبر، أعلن الرئيس التركي رجب طيب إردوغان استعداده لنشر قوات في ليبيا إذا طلبت «حكومة الوفاق الوطني» المدعومة من الأمم المتحدة في طرابلس ذلك. وكرّر هذا العرض خلال لقاءٍ جمعه في 15 ديسمبر مع رئيس وزراء «حكومة الوفاق الوطني» فايز السراج في أنقرة، وهي الزيارة التي جاءت بعد أن عاود اللواء خليفة حفتر، الذي يقود القوات التي تطلق على نفسها اسم «الجيش الوطني الليبي» ويسعى إلى الحلول محل «حكومة الوفاق الوطني»، التقدم نحو طرابلس للاستحواذ عليها بالقوة.

وفي غضون ذلك، وقّعت تركيا اتفاقيتين مثيرتين للجدل مع حكومة طرابلس خلال الشهر الماضي، وهما مذكرة تفاهم حول تزويد «حكومة الوفاق الوطني» بالأسلحة والتدريب والأفراد العسكريين، صادقت عليها طرابلس رسمياً في 19 ديسمبر، واتفاقية بحرية في 28 نوفمبر لترسيم حدود المناطق الاقتصادية الحصرية في مياه البحر المتوسط التي تفصل بين البلدين. وأثارت هذه الخطوة الأخيرة احتجاجات من اليونان ومصر ودانها المجلس الأوروبي «بشكل قاطع».

Ad

وتعكس هذه التطورات وغيرها مكانة ليبيا المتنامية كنقطة جوهرية في السياسة الخارجية التركية، التي تعتبر تلك البلاد على ما يبدو مسرحاً تستخدمه تركيا لمنافسة خصومها القدامى (اليونان) والجدد (مصر والإمارات العربية المتحدة) بواسطة وكلائها. وفي الوقت نفسه، أصبحت «حكومة الوفاق الوطني» الليبية تعتمد بشكل متزايد على أنقرة لأسباب عسكرية، أي عدم وجود حلفاء آخرين على استعداد لتوفير أسلحة قادرة على مواجهة الطائرات بدون طيار المقدمة من الإمارات لـ «الجيش الوطني الليبي»، ووصول المرتزقة الروس الذين أضافوا تكنولوجيا جديدة ودقة في الحرب التي يشنها حفتر ضد طرابلس.

وما لم تستثمر واشنطن المزيد من الطاقة الدبلوماسية وتدعم بالكامل المبادرة الألمانية لتنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار والعودة إلى مفاوضات السلام، فسوف تتصاعد حرب الوكالة في ليبيا حتماً. وفي هذا السيناريو، يمكن أن تصبح تركيا وروسيا – لا الولايات المتحدة أو شركاؤها الأوروبيون - المحكّمين لمستقبل ليبيا.

صديقة تركيا الوحيدة بالمنطقة

تنبع سياسة أنقرة تجاه ليبيا من عزلتها في شرق البحر المتوسط، والتي تفاقمت تدريجياً منذ انهيار العلاقات التركية -الإسرائيلية في عام 2010، وسوء تقدير سياسة إردوغان الإقليمية خلال انتفاضات «الربيع العربي». وعلى الجبهة الأخيرة، فإن دعمه لجماعة «الإخوان المسلمين» في مصر في الفترة 2011-2012 قد كلّفه الكثير بعد أن أُطيحت تلك الحكومة من خلال الاحتجاجات الجماعية واستعيض عنها بإدارة عسكرية. وعندما رفض الاعتراف بالحكومة اللاحقة للرئيس عبد الفتاح السيسي، تسبب في نفور الأعضاء ذوي النفوذ في «مجلس التعاون الخليجي»، ولا سيما السعودية والإمارات، الذين دعموا السيسي وكانوا قلقين جدا بشأن دور «الإخوان» والحركات الإسلامية السياسية الأخرى في السياسة الإقليمية. (وكانت قطر هي الاستثناء الوحيد بين دول الخليج، حيث عملت بنشاط مع تركيا لدعم الأحزاب السياسية الإسلامية في الشرق الأوسط وتشكيل تحالفات فعلية ضد مصر والإمارات والسعودية على جبهات مختلفة).

وفي غضون ذلك، فإن دعم تركيا للجماعات المتمردة في الحرب السورية يضعها في مسار تصادمي مع دمشق وإيران، وكذلك مع حلفاء طهران الإقليميين داخل لبنان والحكومة العراقية. باختصار، كانت خسارة أنقرة للشركاء الإقليميين شبه كاملة بحلول الوقت الذي اندلعت فيه الحرب الأهلية في ليبيا عام 2014، مما مهّد الطريق أمام تحوّل الأنظار التركية نحو ليبيا.

وفي ذلك الوقت، ألقى إردوغان دعمه وراء تحالف «فجر ليبيا» في طرابلس/مصراتة، والذي عارض تحالف «كرامة ليبيا» التابع لحفتر. من جانبهما، كانت مصر والإمارات قلقتين من تنامي الإسلام السياسي في ليبيا، وتائقتين إلى إضعاف إردوغان، لذلك سرعان ما أيّدتا حفتر وجدول أعماله المعلن «المناهض للإسلاميين والمناهض للإرهاب»، ومن بين المساعدات الأخرى التي قدمتاها، تنفيذهما غارات جوية نيابة عنه.

واليوم كثّفت حكومتا القاهرة وأبوظبي دعمهما لهجمات حفتر الأخيرة، بما في ذلك مدّ قواته بالتكنولوجيا الإماراتية لشن ضربات بطائرات بدون طيار وبالمشغّلين الإماراتيين لهذه الطائرات. ومن جهتها، سعت تركيا إلى التصدّي لهذه الخطوات عبر تزويد «حكومة الوفاق الوطني» بطائرات بدون طيار خاصة بها (على الرغم من أن ذلك أقل مما منحته الإمارات لحفتر) بالإضافة إلى أسلحة وناقلات جنود مدرعة إضافية. وكما جاء في تقرير صدر مؤخراً عن الأمم المتحدة، تمت جميع عمليات نقل هذه الأسلحة إلى جماعات متعددة في تجاهل صارخ لقرار مجلس الأمن بحظر توريد الأسلحة إلى ليبيا.

مواجهة كتلة شرق البحر المتوسط

وجدت تركيا نفسها أخيراً بمواجهة تحالف ناشئ من الخصوم القدامى والجدد عبر شرق البحر المتوسط، وخاصة قبرص ومصر واليونان وإسرائيل، ونظراً إلى تراوح علاقتها مع هذه الدول بين الفتور والعدائية، تشعر أنقرة بالقلق إزاء المعدل الذي اصطفت به تلك الدول في تعاون استراتيجي، تضمّن مبادرات مشتركة في المجالات الدبلوماسية والعسكرية والطاقة.

على سبيل المثال، بعد فترة وجيزة من وصول السيسي إلى السلطة، بدأ محادثات مع اليونان لترسيم حدود المناطق البحرية الاقتصادية بين البلدين، ثم عقد قمةً ثلاثية في نوفمبر 2014 للترويج لاتفاق لتزويد مصر بالغاز الطبيعي من الحقول البحرية الواقعة قبالة الساحل القبرصي، كما استضافت القاهرة الاجتماع الافتتاحي لـ «منتدى غاز شرق المتوسط» في وقت سابق من هذا العام، ولوحظ استثناء تركيا منه.

وعلى الجبهة العسكرية، تجري مصر مناورات جوية مشتركة مع اليونان منذ عام 2015، وتم تنفيذ المناورة الأولى المسماة «ميدوزا» على جزيرة رودس اليونانية على بعد اثني عشر ميلاً فقط من السواحل التركية. وبدأت القوات القبرصية المشارَكة في تدريبات «ميدوزا» عام 2018؛ وبشكل منفصل، نفّذت هذه القوات ثلاث جولات من التدريبات المشتركة في إسرائيل في وقت سابق من هذا العام.

وتهدف الاتفاقية البحرية الجديدة التي أبرمتها أنقرة مع طرابلس جزئياً إلى التصدي لهذا التعاون؛ فقد رسم الاتفاق الموقع في 28 نوفمبر محوراً بحرياً افتراضياً بين دالامان الواقعة على الساحل الجنوبي الغربي لتركيا ودرنة الواقعة على الساحل الشمالي الشرقي لليبيا (بعيداً عن مجال السيطرة العملية لحكومة الوفاق الوطني). ومن وجهة نظر إردوغان، يتيح له هذا الخط اعتراض التكتل البحري الناشئ بين قبرص ومصر واليونان وإسرائيل، والتصدي في الوقت نفسه للضغط المصري والإماراتي على حكومة الوفاق.

التداعيات المحتملة داخل ليبيا

على الرغم من أن أوروبا والولايات المتحدة قد حذرتا «حكومة الوفاق الوطني» من أن إقامة علاقات أوثق مع تركيا من شأنه أن يُعرّض دعمها للخطر في الغرب، إلا أن السلطات في طرابلس شعرت بعدم وجود خيار آخر أمامها بعد ثمانية أشهر من القتال المتجدد. وزادت الخسائر العسكرية لقوات «حكومة الوفاق الوطني» بسبب الضربات الإماراتية بطائرات بدون طيار والقناصة الروس، في حين ساءت الأوضاع في العاصمة حيث يلتمس عشرات الآلاف من النازحين داخلياً اللجوء في طرابلس. (ويشكل أنصار حكومة الوفاق في طرابلس ومصراتة غالبية سكان ليبيا، لكن حفتر وحلفاءه من الشرق يسيطرون على مساحة أكبر بكثير من الأراضي).

وحيث لا يُظهِر حفتر أي اهتمامٍ بالتسوية السياسية، وعدم بذل المجتمع الدولي الكثير للضغط على مؤيديه الأجانب، فيمكن لمذكرة الدفاع التركية -الليبية الجديدة أن تساعد في ردع المزيد من التصعيد - خاصة أن مصر لا ترغب في مواجهة عسكرية مع تركيا. إن حدوث المزيد من التصعيد في ليبيا قد يفتح المجال أمام أنقرة وروسيا للحلول محل الغرب والأمم المتحدة في المعركة الدائرة لتحديد مستقبل ليبيا، وعلى الرغم من أن إردوغان وفلاديمير بوتين يدعمان حالياً طرفين متعارضين في الحرب الأهلية، فإن سجل عملياتهما في سورية يكشف الكثير عن قدرتهما على التوصل إلى تفاهم في ليبيا. وتحدَّث الزعيمان عن الوضع في ليبيا عبر الهاتف في 17 ديسمبر، ومن المقرر أن يزور بوتين تركيا في يناير لحضور اجتماع يركز بشكل خاص على هذه القضية.

*سونر چاغاپتاي وبين فيشمان