تسابق الزمن، تتصور أن عندك متسعاً من الوقت لتحقق ما تريد مهما كان ذاك الذي تطمح إليه صغيرا جدا، ومتواضعا قدر ما تحولت أحلامنا إلى بعض المساحات البسيطة، قدر ما أصبحت تحاول أن تطلب ما هو مستطاع، هذا بالطبع بالنسبة إلى الأغلبية الساحقة من البشر كل البشر، أما الآخرون وهم الشريحة الأكبر فإنهم يبحثون عن لقمة لا تكون مغمسة بالعرق أو ربما الدم الذي أصبح أكثر وفرة من الماء! أما أولئك الجالسون فوق كوم الأوراق الخضراء المكدسة بالملايين فهؤلاء لا همّ لهم إلا السؤال المتكرر "هل من مزيد؟".

ولكن هي نهاية وبداية، فلماذا التركيز على النهايات بدل فتح نوافذ الأمل والفرح للمولود القادم الذي نأمل ألا يولد مشوها بترهلات الزمن، تتزين المدن بالأنوار ربما احتفالا بنهاية 2019 أكثر منها فرحا بالقادم، يكرر بعضهم بكثير من السخرية سأصفع كل من يقول لي "ينعاد عليك" أو كل من يحزن لأنه انتهى سريعا، فتراكضت الأشهر وازدحمت كأنها هي الأخرى تريد نفض ما تبقى من حزن ودم والاغتسال بالأمطار أو الثلوج التي تصاحب نهايات الأعوام، فيكسو البياض الأرض ويصبح الأفق كالقطن النقي لا يكاد يلامس الأرض حتى يتحول إلى قطرة ماء، أما في بلادنا فرغم عدم انخفاض درجات الحرارة لتسمح بولادة موسم الثلج فإن أجواء الفرح تبقى هي هي، إلا إذا أصدر أحدهم فتوى جديدة بعدم جواز الفرح مع نهايات الأعوام!

Ad

تتصدر الصحف في تلك البلاد قوائم ما يمكن أن يكون هدية للعام الجديد، وهي ليست كلها من المواد الاستهلاكية التقليدية فقط رغم أنها هي الأخرى تفرح الصغار والكبار، يقول أهلنا زمان "أنا غنية وأحب الهدية"، إلا أن ما يلفت الانتباه عندهم هو وضع قوائم أهم الكتب التي صدرت في ذلك العام لتكون هدية جميلة، تكتظ المكتبات ويقفون هناك طوابير طويلة إما للحصول على توقيع كتاب من الكاتبة أو الكاتب أو حتى للبحث عن الكتب التي تصدرت قائمة أفضل 10 كتب حسب تقييم "النيويورك تايمز" أو غيرها من الصحف التي لا تزال، رغم كل ما يقال عنها، تحتفظ بالكثير مما يجب على الصحافيين التعلم منه لو تواضعوا قليلا واعترفوا بنهاية الصحافة المكتوبة في بلاد الحرف والكلمة الجميلة، بل إنها كانت أرض ولادة الأديان السماوية، حيث قال جبريل للرسول "اقرأ" وكانت إجابته "ما أنا بقارئ" فأصبح على المسلمين منذ ذلك الحين أن يعرفوا أن قرآنهم يستند إلى فصاحة اللغة، ولكنهم قد يكونون نسوا ذلك في زحمة الفتاوى حول شروط دخول دورة المياه بالرجل اليمنى أم اليسرى، وعلى أن ما اجتمع أنثى ورجل إلا كان الشيطان ثالثهما، وأي شيطان ذاك الذي يستطيع أن ينافسهم جهلا، أو ربما تزويرا لكتابهم أو تفسيراتهم المنغلقة على ثقافتهم المنزوية بين جدران التخلف الأربعة؟

تسأل تلك المذيعة ذاك الوجه الحسن والثقافة الضحلة ما الهدية التي ستسعدكم في العام القادم، يرد عليها المارة: نحن لا نتهادى في أعياد الميلاد، ولا حتى في السنة الهجرية، فهذه "بدعة وكل بدعة ضلالة"! ولكن ومع العد التنازلي لـ2020 لا يمكن لنا إلا أن نبحث عن مساحة للفرح، نفتح شبابيك الأمل، نغازل الحمامة الجالسة عند شرفتنا، ونسقي العصافير قطرة ماء لتغرد مع اليوم الأول من العام القادم علها تسكت نعيقهم وأصواتهم المقززة، البعض توقف منذ مدة عن تقديم الكتب كهدايا فهي بضاعة غير استهلاكية، ونحن شعوب لا تقرأ بل تكتفي بتصفح مواقع الشبكات الاجتماعية، تتابع بشغف ما يبثه الجميع من أخبارهم الشخصية جدا على الإنستغرام، من السخرية أن بعض دولنا ما زالت تمنع وتصادر الكتب في حين تترك المواقع الإباحية والتافهة مفتوحة على مصراعيها، ربما لتكريس الجهل حتى بين المتعلمين منا؟ أم هي مجرد مصادفة، يقف ذاك المسمى المسؤول عن مواقع التواصل الاجتماعي يراقب النيات لا الكلمات، يصدر أوامره فيحضر ذاك المسكين الذي يحاول أن يكرس ثقافة أن وسائل التواصل هي لنشر المعرفة، وربما بعض الأخبار التي تهم كل مواطن، يستدعى كما تجار المخدرات، ربما حتى أولئك لا يستدعون إلى مراكز المخابرات والأجهزة الأمنية بل هم يسكنون الفلل الفاخرة ويرفعون رؤوسهم بين الناس وكأنهم قد اخترعوا الذرّة.

إذاً أصبحت الكتب أخطر من الترامادول، ويعد من يدخل كتابا في سفرياته إلى عواصم الثقافة، خارجاً عن القانون ومجرماً، هو عام جديد، لا أحلام إلا تلك التي تبدأ صغيرة وتنتهي أصغر وأصغر، لا طموح إلا أن تضحك مكتباتنا فتواجه ذاك الجهل المكرس ببعض من المعرفة والنور، لا تحبسوهم في ظلمات كلماتكم النابية وتسفيراتكم وأخباركم المنتشرة من قبل جيوشكم الإلكترونية، افتحوا لهم مساحة، اتركوا الكتب لتنقلهم إلى عوالم لم يعرفوها ومدن من نور.

** تم ذكر العام بالتذكير بدلا من التأنيث ليس من باب الخطأ بل مع سبق الإصرار والترصد فلم أستخدم سنة 2019 لأنهم أدمنوا إسقاطات التأنيث على العواصف والظواهر الطبيعية الكارثية!

** ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية