خلال الاحتفال بالذكرى السبعين لتأسيس الناتو في لندن، حصل تحوّل غريب في الأحداث: تولى ترامب دوراً غير مألوف حين راح يدافع عن الحلف، في حين حذر إيمانويل ماكرون من "موته الدماغي" المزعوم، لكن تكمن المفارقة في بذل الأوروبيين، لا ترامب، قصارى جهدهم لتهديد أمن الغرب من خلال إضعاف حملة الضغط التي أطلقتها إدارة ترامب ضد إيران.

في الأسبوع الذي احتفلت فيه أوروبا بتأسيس الناتو، أعلنت ستة بلدان إضافية من أوروبا الغربية، وهي بلجيكا، والدنمارك، وفنلندا، وهولندا، والنروج، والسويد (جميعها دول أعضاء في الحلف باستثناء السويد)، أنها ستشارك في "أداة دعم التبادل التجاري" (إينستكس). أسست بريطانيا العظمى وفرنسا وألمانيا هذا النظام في محاولةٍ منها لإيجاد مخرج يضمن استمرار التجارة مع إيران على أساس مقايضة السلع والخدمات. نظرياً، يسمح "إينستكس" للدول الأعضاء بالتعامل مع الجمهورية الإسلامية من دون انتهاك العقوبات الأميركية.

Ad

كان صادماً أن تنضم تلك البلدان الستة الإضافية إلى نظام "إينستكس" تزامناً مع صدور تقارير عن تعامل الحكومة الإيرانية مع الاحتجاجات المتواصلة ضد ارتفاع الأسعار بقوة غير مسبوقة، فقد أطلقت النار وقتلت بين 180 و450 شخصاً وأصابت ألفَين آخرين على الأقل واعتقلت 7 آلاف، وتُسلّط هذه الممارسات الضوء على غباء "إينستكس" بحد ذاته وغباء أوروبا في تصميمها على إضعاف آثار انسحاب إدارة ترامب من الاتفاق النووي الذي عقدته إيران مع أوباما وبلدان غربية أخرى في العام 2015.

يظن الأوروبيون أن قرار ترامب بسحب الولايات المتحدة مما يعتبره اتفاقاً كارثياً كان خيانة للتحالف الغربي الذي أشاد بإقدام أوباما على استرضاء إيران، ويفسّر المشاركون في "إينستكس" دوافعهم على اعتبار أنهم يريدون الحفاظ على ميثاق طُرِح أمام العالم كطريقة لمنع طهران من اكتساب أسلحة نووية، لكن بما أن ذلك الاتفاق اكتفى بتأجيل القنبلة الإيرانية وأكّد حتمية تصنيعها، لا يمكن تقبّل هذه الحجج.

لا يريد الأوروبيون منع تصنيع سلاح نووي إيراني، بل يبحثون عن طريقة لمتابعة الاستفادة من التجارة مع نظام وحشي يقمع شعبه ويبقى أول دولة راعية للإرهاب في العالم.

توقّع الأوروبيون أن يؤدي الاتفاق الذي عقده أوباما مع إيران إلى تهافت رجال الأعمال والمستثمرين، فما كانوا يهتمون فعلياً بمنع الانتشار النووي، أو بالمخاطر التي تطرحها إيران على الشرق الأوسط بسبب سعيها إلى الهيمنة على المنطقة، أو بلجوئها إلى الإرهاب بكل وحشية لتنفيذ أهدافها حول العالم. كل ما أرادوه هو إيجاد طريقة لكسب الأرباح من سوق كان مغلقاً في معظمه أمام الغرب منذ الثورة الإسلامية عام 1979.

لكن لم يحصل ذلك التهافت المنتظر على أرض الواقع لأن عدداً كبيراً من المستثمرين كان محقاً في قلقه من التحول إلى رهينة اقتصادية لدى النظام الإيراني، ولا يمكن اعتبار أي استثمار آمناً في بلدٍ يفتقر إلى حكم القانون.

حين سحب ترامب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي وبدأ يفرض العقوبات ويشددها مجدداً، زاد بذلك صعوبة تحقيق أحلام الأوروبيين بكسب الأموال الإيرانية النقدية، صحيح أن أوباما ووسائل الإعلام التي تؤيده زعموا أن الولايات المتحدة لن تنجح مطلقاً في إعادة فرض العقوبات على إيران بنفسها، لكن أثبت ترامب سريعاً أنها قادرة على ذلك، فاضطر الأوروبيون للاختيار بين قطع علاقاتهم مع أكبر اقتصاد في العالم والبحث عن الأرباح في طهران، وكان معظمهم حكماء بما يكفي كي يقرروا ألا يتحدوا الأميركيين.

لا يظن عدد كبير من الخبراء الماليين أن نظام المقايضة في "إينستكس" قد ينجح في منح إيران قناة جديرة بالثقة لبيع نفطها، لكن سواء نجح ذلك النظام أو فشل فإن هدفه الأساسي يتعلق بإرسال المال إلى الجهات نفسها التي تقتل المحتجين الإيرانيين في الشوارع، وتُموّل الإرهاب الإسلامي في الخارج، بما في ذلك الحرس الثوري الإيراني الذي يدير معظم الاقتصاد الإيراني. على غرار الاتفاق النووي الذي دفع الولايات المتحدة إلى نقل رزم الأموال النقدية الإيرانية جواً، يبدو "إينستكس" مُصمِّماً على إنقاذ نظام مستبد يهدد الغرب هو وعملاؤه الإرهابيون في سورية ولبنان وغزة واليمن وفي كل مكان ينشط فيه الحرس الثوري الإيراني.

في وجه التهديدات التي تطرحها إيران، كان ترامب السياسي الوحيد الذي تمتع برؤية مفاجئة، في حين افتقر ماكرون وبقية الأوروبيين على ما يبدو إلى الذكاء الكافي كي يفهموا أن جهودهم تقوّي عدواً للغرب.

* «جوناثان توبين »