في الانحسار والسقوط لا يبقى أحد، فهو كالسيل يجرف الجميع ولا يبقى هناك إلا البعض، يقف أولئك في أماكنهم يراقبون من بعيد السقطات التي ليست بحاجة إلى تفسير أو توضيح، لكنها مع الوقت تبدو وكأنها تأخذ مكانة في عالم مليء ببقايا السقطة الكبرى، هذا ما يحدث في عالمنا الذي نعيشه اليوم، فالسقوط لا ينتهي عند السياسة والاقتصاد والأخلاق والمبادئ والعلاقات والمصالح، بل يتعداها ليصل إلى الإعلام والثقافة والفنون والموسيقى والعلم وكثير من الأمور التي بقيت في الذاكرة الجمعية وفي كتب التاريخ لتعبر عن مرحلة ازدهار عاشتها المنطقة أو دولها، وفي حين اعتز العرب بشعرائهم في الدولة الأموية أو العباسية أو حتى ما قبل ذلك من شعراء المعلقات بقي الشعراء ولكن الملوك والأمراء رحلوا إلا من بعض الأثر.

لو عاد المتنبي اليوم وراقب برامج المسابقات الشعرية على المحطات التلفزيونية العربية "المستقلة جدا!" لقضى في سكتة قلبية أو دخل موجة من الضحك الهستيري، هواة يحكّمون مسابقات لهواة، وأصوات جميلة لأطفال وصبية تخضع لتقييم فنانة أو فنانين منحوا اللقب كما غيرهم من قبل شركات تجارية احتكرت حتى الفن والأصوات، وساهمت في نشر التلوث الفني والثقافي وفي خلق أجواء من انحطاط في الذوق العام على أقل تقدير.

Ad

ويستمر السقوط فوق السقوط، فمن مسابقات الشعر إلى مسابقات الغناء والموسيقى والفنون بأنواعها، ويتدخل المالكون والقائمون على المحطات، والمحتكرون للإنتاج في المنطقة ككل، في اختيار لجان التحكيم بالمقاييس نفسها التي يختارون فيها قمصانهم وأحذيتهم بأن تكون مبهرة الشكل لافتة للأنظار فارغة المحتوى، وقابلة أن تكون صورة في حين القرارات كلها بيد أولئك الأشخاص نفسهم، حتى أصبح المشهد تمثيليا مضحكا، في حين يحاول أولئك النجوم "البلاستك" إقناع المشاهد بأنهم متعمقون في الموسيقى العربية، فيعيدون تكرار العبارات نفسها التي حفظوها عن طريق موسيقي آخر لا يملك من أدوات الإثارة والإغراء والتسويق مثل من يدربهم، فيتحول إلى كسب الرزق عن طريق تدريب وتعليم أشباه الفنانين والمطربين والرسامين والنحاتين والشعراء والروائيين.

جوائز الرواية العربية وأفضل شاعر وأفضل صوت طربي وأفضل راقص وأفضل عازف كلها تفصل على مقاييس تجارية تسويقية بحتة، لا يهم إن كانت تلك المسمية نفسها مطربة الـ... تملك صوتا جميلا أو صوت متعلم، أو أن تكون جاهلة في الصوت والثقافة لكنها تلبس "الشانيل"! وذاك المطرب عليه أن يتحول إلى شكل ما بين المطرب المحترف و"الأراجوز" الذي يروج لبرامج تشد الملايين من العرب المتسمرين والمتابعين لها، ألا تصدقون أن السقوط قد تحول إلى حجر أكبر من أن يتفاداه المواطن العادي الجالس في غرفة معيشته، الباحث عن مادة للتسلية بعد يوم شاق بالعناء، فلا يجد إلا هذا الانجرار به إلى قاع المدينة والمدنية؟!

يرفع الكثيرون صوتهم ضد الفساد المالي إن استطاعوا لذلك سبيلاً أو حتى بين ثنايا أحاديثهم العابرة، ولكن قليلون من يستطيعون أن يرفعوا الصوت ضد الفساد الثقافي والأخلاقي، وهو في حقيقة الأمر انحطاط وليس فسادا فقط. وتزداد حدة السقوط عندما تقوم لجنة التحكيم بتلك التمثيلية في سرد أسباب اختيار الفائزين، وكأن التقييم مبنيٌ على الكثير من المعايير الفنية والعلمية، وليس كما يريد القائمون على البرنامج أو ربما المسوقون له.

لا يعرف العربي من أين تأتيه الطعنة، ففي حين كان يرفع الصوت عاليا في الماضي "يسقط يسقط الاستعمار" ماذا يفعل اليوم والاستعمار أصبح داخله "منه وفيه" أقرب له من دقات قلب في صدره؟ كيف يتفادى الطعنة والخوف يسكنه من الضربات المتكررة؟ إنه العبث المعجون بألم اللحظة المتجمدة إلا في بريق لا يعبر إلى الروح.

* ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية