هو الحدث نفسه أو هكذا يهيأ لك، تقرأ المذيعة افتتاحية نشرة الأخبار المسائية، ويبدو الحدث هنا متنوعاً أو هو ربما ليس ما كنت تتابع منذ أسابيع، تنتقل لافتتاحية النشرات الأخرى في أكثر من محطة تلفزيونية ليزداد عندك الإحساس بالغباء أو هكذا يبدو لك، فقد دخلك الشك إما في فهمك وإما في طريقة متابعتك، وإما حتى في الحدث نفسه! فالاختلاف بين الروايات التلفزيونية والإعلامية يتنوع إلى حد أن تخلق حالة جماعية من الضياع.

والاختلاف ليس في التسميات فقط بين ثورة أو فورة أو مؤامرة، بين شهيد أو عميل أو خائن، بين وطني أو ناكر لوطنه، بين مواطن صالح أو مواطن لا يستحق حتى تلك الصفة ويحق لهم سحب جنسيته أو جواز سفره، والاختلاف لا يبقى ضمن أسوار التسميات لكنه يمتد إلى سردية الحدث نفسه، هو احتجاج، فإغلاق شوارع للتعبير عن حالة من رفض واقع ظالم، أم أنه تعطيل لحياة البشر ولاقتصاد البلد، ولزيادة حالة "اللخبطة" والخلط لدى المتابع، يقوم بعض الذين يحمل المتظاهرون صورهم بالنزول للميادين متضامنين مع الصرخة التي تريد إنهاء الفساد المستعصي، فيقف البعض حائراً على من ينتفض الشعب إذا كان الجميع متفقاً على الوجع؟! عندما كتب بعضهم مقالات تحولت إلى شكل كتاب وأُعطي لها عنوان "حالة الظلم في الوطن العربي"، جاءت الصرخه من الجميع، يسار، يمين، وسط، حزب سياسي ديني أو حتى جمعية أو هكذا تسمي نفسها، خاف الجميع من كلمة الظلم، تصوروا أنها تضخيم للحالة التي تعيشها هذه المنطقة التي هي أصلا خارج التاريخ، وربما حتى الزمن!

Ad

حتى بين المتظاهرين المنتفضين أو الثوار تختلف التسميات، وليس الوضع مقتصراً على الإعلام، فبعضهم يرى أنه ثائر، والآخرون ليسوا مثله، أو ربما هو درجة أولى ثورة وهم درجة عاشرة! ضاعت الثورة في زحمة تفسيراتهم التي هي أصلا تعود إلى انتماءاتهم الحزبية أو الطائفية أو الاثنتين معا، إذاً فهم يسقطون في المستنقع نفسه الذي ينتفضون عليه. كلٌّ يرى الأمر من ثقب صغير أو دائرة تشبهه، وأي شيء آخر لا بد أن يكون قد جاء على ظهر دبابة أو ربما نشرة أخبار أو تغريدة! أو عبر مندسين قاموا بالتدريب على كيفية "صناعة الثورة"، فالثورة هنا تحولت عند بعضهم إلى صناعة تدرس عند مكاتب الـ"سي آي إيه" أو "الإم إي فايف" أو جهاز المخابرات الفرنسي، التركي، الإيراني، الروسي ... إلخ.

وهذه الرواية ليست برمتها كذبة كبرى أو تهويلاً من قبل حملة نظريات المؤامرة، ولكن لا أحد ينظر إلى الأرض الخصبة، تلك التي قد نشفت أعشابها وجف ترابها حتى اشتعلت بأول شرارة، لا أحد يتابع الوجع أو ربما حتى لا يعرفه، فمن يكدس الأصفار أمام أرقام حساباته المصرفية لا يتصور أن هناك من لا يملك حق ربطة الخبز اليومية، ولا يدرك أن كثيرين يعيشون إما على أجر يوم بيوم أو على الديون.

الحكومات مدينة للبنوك الدولية أو تلك المنظمات الاقتصادية "المنقذة" للدول الفاشلة، والمواطن مدين لبنوك خزائنها متخمة بالأموال المنهوبة، والحياة تسير بفعل فاعل أو ربما بقدرة الله، كما رد ذاك اليمني يوما على مندوب البنك الدولي عندما حسب مدخول ذاك المواطن البسيط ومصروفاته، التي فاقت ما يدخل في جيبه، وسأله "كيف تستطيع أن تمضي في الحياة وأنت تصرف أكثر مما تدخل؟"، فرد اليمني الذي كواه الفقر سنين: "الله يساعدني"، ضحك ذاك المندوب المهندم وردد: "الله غير موجود إلا في اليمن!".

الثورة التي أخذت تسميات متنوعة خلال الأشهر الماضية في كل المدن ببعض الدول التي ظلت تراقب وتعض على الجرح منذ عام 2011 عندما انتفض العرب لأول مرة منذ سنين حتى تصور المرء أنهم آمنوا بتلك الرواية في المرحلة الابتدائية عن صبر أيوب، وهو الآخر لم يعرف إلا عند شعوبنا.

أن ينوع الإعلام في أوصافه ويمجّد المتظاهرين في مدينة ما ويرفضها في مدن أخرى، فهذا الأمر ليس بالغريب عندما أصبح الإعلام في يد الفئة التي تتحكم في مصير العباد، ولكن أن يختلف الثوار أنفسهم في تعريفهم للحراك أو التظاهرات في الدول الأخرى فهذا الأمر يعيدنا للمربع الأول، وهو أن الرافض للظلم يقع أحيانا ضحية الترويج له، وهي ليست بالنظرية الجديدة، فحتى ما حصل من قتل وذبح ودمار في بعض ما سمي "ثورات" هو في الكثير من الأحيان تكرار لتصرفات الظالم نفسه، ولكن يبقى الأمر المثير للغرف ربما أن ينتقد حاكم "أبو غريب" قلة الديمقراطية والشفافية والعدالة في دول دون أخرى.

اختلفوا على التسميات إن شئتم ولكن لا تنكروا الظلم المغمس في وجعهم اليومي، لا تنكروا عليهم حقهم في صرخة تكرر "كفى"، و"كلكم يعني كلكم" و"الشعب يريد"، و"عدالة وحرية"،لا شيء يبرر الظلم أبداً ولا عدالة في قمع الجائع.

* ينشر بالتزامن مع "الشروق" المصرية