يمثل التطور الحضاري للبشرية طريقا متعرجا، مليئا بالمنعطفات والانتكاسات، ولكنه في المحصلة العامة يسير للأمام،

وقد سار هذا التطور باستمرار عبر صراع محتدم بين الخير والشر، بين القوى التقدمية والرجعية، وبين حاملي قيم ومفاهيم الحرية والعدالة، وأولئك الذين يسعون إلى تكريس أنظمة الاستغلال والاضطهاد والتمييز.

Ad

وقد كان التقدم للأمام يمتزج في كثير من الأحيان بحلول وسط، ومساومات لخلق توازن بين الحاكمين والمحكومين، وبين الأثرياء والفقراء، وفي الخلاصة فإن كل استقرار صار يرتبط بنشوء عقد اجتماعي، مستتر أو معلن، ينظم العلاقات في كل مجتمع حتى لا يتحول المحيط إلى غابة صراعات وحشية، لا تحكمها أعراف ولا قوانين.

لا تعيش البشرية اليوم أفضل حالاتها، بسبب الارتداد المريع الناجم عن سيطرة الرأسمالية المتوحشة، والاحتكارات التي جعلت ثمانية أشخاص فقط يملكون ما تملكه نصف البشرية، أي ثلاثة آلاف وخمسمئة مليون شخص، وبسبب ما يبدو ارتدادا شاملا على المستوى العالمي، عن القانون الدولي، وعودة إلى أساليب ومفاهيم القرن التاسع عشر.

تأتي هذه المقدمة في سياق محاولة فهم ما يجري في مجتمعنا الذي يعاني احتلالا إجراميا، ونظام أبارتهايد عنصريا شرسا، واضطهادا متعدد الطبقات، ولكنه يحاول جاهدا أن ينظم علاقاته الداخلية بما يساعده في مواجهة خصمه الرئيس، وتحقيق حريته.

ويجري ذلك في ظل انقسام سياسي استفحل وطال، وصار سببا لنزيف متواصل لطاقاتنا التي نحتاج كل جزء منها في مواجهة خصوم أقوياء لا يعرفون الرحمة. وبعد الفشل المتكرر لجهود المصالحة، نشأ توافق نسبي على ضرورة إجراء الانتخابات الديمقراطية كمدخل لإنهاء الانقسام، وكوسيلة لترميم مؤسسات المجتمع التشريعية والقضائية ولاستعادة الديمقراطية المفقودة، والعقد الاجتماعي، الذي تناثر وتلاشى.

غير أن الوصول إلى ذلك يتطلب الإقرار بمبدأ أساسي لا يمكن بدونه نجاح أي عملية ديمقراطية، وهو مبدأ المساوة أمام القانون، فما قيمة انتخاب جسم تشريعي، إن كانت القوانين تطبق في النهاية حسب الأهواء والأمزجة، أو على أساس الانتماء السياسي أو الفكري؟ ولا يمكن لأحد أن يقبل أن يكون تطبيق أي قانون أو قاعدة أو نظام قائما على التمييز بين الناس بسبب انتماءاتهم الفكرية أو مواقفهم السياسية والمجتمعية، ومن المستحيل إقناع الناس بجدوى المشاركة الديمقراطية إن لم ترَ أغلبيتهم أن حصيلة تلك الممارسة ستؤدي إلى العدالة في تطبيق القوانين وتكافؤ الفرص، والحقوق بين الناس.

مثلما لا يمكن إقناع الطلاب بالدراسة والاجتهاد إن كانت نتائج تحصيلهم وعلاماتهم يقررها مزاج أساتذتهم لا أداؤهم الدراسي الفعلي، وبالاستناد إلى القاعدة نفسها في التطبيق العادل للقانون، لا يمكن التمييز بين أسير وأسير، أو بين عائلة شهيد وشهيد، أو بين مناضل وآخر، أو بين فصيل وآخر، أو بين مواطن وآخر. قيمة الانتخابات الديمقراطية أنها تعطي للشعب حق الحكم والقرار في حجم التأييد السياسي الذي يمكن أن يحصل عليه كل حزب أو قائمة أو مجموعة، وبالتالي حجم القوة التي تعطى لهم في اتخاذ القرارات السياسية والمجتمعية التي تهم المجتمع، ولا يمكن أن يكون للانتخابات معنى إن لم يبدأ الأمر وينتهِ بمساواة الجميع أمام القانون، وبالعدالة التامة في تطبيقه.

* الأمين العام لحركة المبادرة الوطنية الفلسطينية