في تعليقات غير عادية صدرت عن شخصية معتدلة في التلفزيون الايراني هو علي ضياء في أعقاب الارتفاع الكبير في أسعار الوقود سخر ذلك الشاب من تصريحات السلطات الايرانية حول متوسط تكاليف المعيشة في البلاد: "سلطاتنا تقارن أجرة سيارات الأجرة في ايران مع نظيرتها في نيويورك، وسعر البنزين مع سعره في لندن وقيمة الايجارات مع مستواها في باريس... ولكن عندما يتعلق الأمر بالأجور فهي تقارنها بالرواتب في إثيوبيا".

تشكل هذه الصورة الأساس الواضح في الظروف الاجتماعية – الاقتصادية التي أطلقت موجة الاحتجاجات الأخيرة في ايران بعد الزيادة الكبيرة في أسعار الوقود. وبحسب محافظ طهران فقد تعرض 70 في المئة من الأقاليم الايرانية لموجات احتجاج في الأيام القليلة الماضية، ويذكر أن أسعار الوقود في ايران لا تزال الأدنى في العالم ولا تقل عنها سوى أسعار الوقود في فنزويلا والسودان.

Ad

من جهة أخرى لم تحقق الحكومة الكثير من النجاح في سعيها للحد من تهريب الوقود على الرغم من أن الزيادة الأخيرة في أسعاره قلصت نسبة الأرباح ويرجع ذلك إلى أن سعر الوقود في العراق وأفغانستان يصل الى أكثر من الضعف، والأكثر من ذلك أن هبوط الاستهلاك المحلي في الوقود سوف يسمح لايران بتصدير المزيد من النفط الى الدول المجاورة في مقابل العملة الصعبة التي تحتاج ايران اليها بشدة.

القشة الأخيرة

وفي الوقت نفسه كانت العائلات المتدنية الدخل تعاني ضغوطاً اقتصادية متراكمة دفعتها الى المشاركة في موجة الاحتجاجات الأخيرة وكانت الزيادة في سعر الوقود القشة الأخيرة. ويعتقد أن نصف الايرانيين يعيشون حول خط الفقر كما أن معدلات البطالة والتضخم عالية جداً ومستويات الأجور متدنية. وفي غضون ذلك، شهدت السنوات الأخيرة ارتفاعاً في سعر الأغذية وتبايناً في الدخل اضافة الى انتشار الفساد. وفي ضوء هذه الخلفية وعدت الحكومة بتحقيق توازن في هذا التطور من خلال اعادة توزيع الزيادة في سعر الوقود على 18 مليون عائلة محتاجة (حوالي 60 مليون نسمة) وقد أثبت ذلك مدى ما يتعرض له الشعب من بؤس اقتصادي – اجتماعي.

وفي عهد الرئيس الأسبق محمود أحمدي نجاد كانت المنح النقدية مؤثرة وفعالة في خفض معدلات الفقر في ايران، ومن جهته قال الرئيس حسن روحاني إن الطبقات الأقل دخلاً سوف تستفيد من الزيادة في سعر الوقود ولكن تلك الطبقات سارعت الى النزول الى الشوارع والمشاركة في موجة الاحتجاج الأخيرة.

ويرجع جزء من هذا التصرف الى عدم اليقين من تنفيذ وعود الحكومة، ومن غير الواضح تماماً ما هي الشريحة التي تمثل الـ 18 مليون نسمة المشار اليها كما أن نقص الشفافية يسمح للحكومة بالتلاعب بعملية التوزيع بطريقة تحقق أهدافها السياسية.

ويذكر أن التعديل في سعر الوقود تم بقرار من المجلس الأعلى للتنسيق الاقتصادي الذي يمثل الرئيس حسن روحاني ورئيس البرلمان علي لاريجاني ورئيس الهيئة القضائية ابراهيم ريسي. وقد أيد المرشد الأعلى علي خامنئي قرار الحكومة على الرغم من تصريحه بأنه ليس خبيراً في الشؤون الاقتصادية، كما دعا الى قمع الاحتجاجات واعتبر ذلك الموقف دعوة صريحة الى استخدام العنف ضد المتظاهرين في صورة غير مسبوقة. وكان اللافت أن البرلمان عارض الزيادة في سعر الوقود ولكن تم تجاهل دوره التشريعي.

والسؤال الوحيد الذي يطرح نفسه اليوم هو: لماذا لجأت حكومة طهران الى هذه الخطوة الآن؟ فقد كان في وسع السلطات الانتظار، على سبيل المثال، حتى ما بعد موعد الانتخابات البرلمانية في شهر فبراير المقبل للقيام بمثل هذه الاجراءات الجذرية. ويشير هذا التوقيت الى أن الحكومة تصرفت بدافع من الحاجة الملحة الى توفير سيولة للميزانية الضعيفة التي قد تتراجع الى حد عدم القدرة على دفع رواتب موظفيها بمن فيهم رجال الأجهزة الأمنية خلال الأشهر القليلة المقبلة.

من جهة أخرى، تراجعت عوائد النفط بشكل أرغم الحكومة على التوجه إلى جيوب المواطنين التي تعتبر فارغة في الأساس وهي تتوقع الحصول على دخل سنوي يصل الى 2.55 مليار دولار من الزيادة في سعر الوقود. وقد أثار ذلك غضب الجماهير التي تشهد موجة الفساد والمحسوبية في البلاد.

العمق الاستراتيجي الإيراني

وإضافة الى ذلك تواجه ايران الى جانب "الضغط الأميركي الأقصى" تهديداً جدياً لمركزها ونفوذها على الصعيد الاقليمي، ويتضح ذلك من خلال المظاهرات المستمرة في لبنان والعراق التي تستنزف الموارد الايرانية أيضاً.

وتذكر هذه الموجة الجديدة من الاحتجاجات بالانتفاضة التي اندلعت أواخر عام 2018 وأحدثت هزة في ايران قبل أن تخمد نتيجة القمع وغياب مشاركة الطبقة المتوسطة. وبكلمات اخرى يتعين رؤية الاحتجاجات الحالية على شكل استمرار لموجة العام الماضي وقد انبثقت الاحتجاجات اليوم – كما الحال في 2018 – نتيجة المعاناة الاقتصادية المتواصلة، والتي أسفرت عن مظاهرات تستهدف شرعية كل أجنحة النظام وشملت كافة شرائح المجتمع الايراني.

واللافت أن عدد المشاركين في الاحتجاجات الأخيرة – وبحسب مصادر حكومة طهران – ارتفع من 42 ألفاً خلال احتجاجات العام الماضي الى 87 ألفاً في التظاهرات الأخيرة، كما أن الجانب المثير للاهتمام هو أن العاصمة طهران شهدت في التظاهرات الأخيرة مزيداً من الاحتجاجات وبقدر أكبر من الاحتجاجات الماضية وقد قطع المتظاهرون عدداً من الطرقات الرئيسية هناك.

تصاعد ردة الفعل

ويضاف الى ذلك أن موجة الاحتجاجات الأخيرة شهدت – بالمقارنة مع الاحتجاجات الماضية – تصميماً أشد من قبل الجماهير والنظام معاً. وأظهرت الجماهير تحدياً لاجراءات القمع كما عبرت علانية عن غضبها من الخطوات الحكومية ومضت الى حد احراق صور خامنئي ومهاجمة مراكز مرتبطة بقوات الباسيج الأمنية والبنوك وهي رموز للنظام تمثل شوكة في خاصرة الشباب الايراني. وتجدر الاشارة الى أن أعمال التخريب التي تمت بعيداً عن ذلك كانت تعبر عن الضغوط التي يتعرض لها الشعب الذي تفجر ضد القمع والفساد.

وعلى الرغم من هذه التصرفات المثيرة للجدل كانت الاحتجاجات سلمية الطابع الى حد كبير فيما أعطت السلطات الضوء الأخضر للقيام بحملات قمع قاسية، وبعد يوم واحد فقط من اندلاع موجة الاحتجاجات حجبت الحكومة خدمات الانترنت بصورة تامة والتي لا تزال مستمرة بشكل يوحي بأن قوى الأمن لم تتمكن حتى الآن من قمع تلك الاحتجاجات على الرغم من الاستخدام الشديد للعنف. واضافة الى ذلك، وفي أوساط الجيش والشرطة يوجد الكثير من الذين يتشاطرون تلك المظالم وإذا استمرت المظاهرات فقد يتعاطف بعض العسكريين معها أو ربما ينضم إليها وهذا ما يفسر سبب قسوة وشدة إجراءات القمع من أجل وضع حد لها.

وتكمن تعقيدات خطوات قمع الاحتجاجات الأخيرة، بخلاف تلك التي اندلعت في العام الماضي، في توزع وانتشار المتظاهرين في نقاط متعددة من المدن، مما يزيد صعوبة قمعهم بصورة فعالة على الرغم من أن الدولة نشرت مئات الألوف من رجال الأمن. واضافة الى ذلك توجد مؤشرات على انضمام شرائح جديدة من المجتمع الى الاحتجاجات مثل البازار وبعض الجامعات.

احتمالات التفجر

من المؤكد أن استمرار العوامل الاجتماعية – الاقتصادية والسياسية سوف يجعل اندلاع موجة جديدة من الاحتجاجات مسألة وقت فقط، وسوف تكون أكثر شدة، والذي تغير عن عام 2018 هو تراكم المصاعب الاقتصادية فيما استمر القمع في الوتيرة ذاتها، وباختصار فإن زيادة سعر الوقود فجرت مشاعر المواطنين الذين كانوا يتطلعون الى عدالة اجتماعية أحجمت الطبقة الحاكمة الفاسدة عن تحقيقها.

وهكذا وجدت ايران نفسها في خضم أزمة مستمرة حول شرعيتها وهو ما يدفعها نحو مزيد من العنف للحفاظ على السلطة، واللافت أن الايرانيين يستمرون في تحميل حكامهم – وليس القوى الخارجية - مسؤولية المصاعب الاقتصادية التي تواجه البلاد.

وفي غضون ذلك، أفضى الدعم الأميركي للمحتجين الى تعكير صورتهم ووفر لحكومة طهران الحجة في أن الاحتجاجات مدفوعة من جانب "أعداء" ايران، وقبل أن يتم قمع الاحتجاجات كان على واشنطن القيام بخطوة تضامن حقيقية مع الشركاء الأوروبيين لتوفير خدمة انترنت إلى المواطنين الايرانيين من أجل تمكينهم من الاستمرار في إسماع أصواتهم وتفادي إخفاء حمامات الدم المستمرة عن عيون وضمير العالم.

* علي فتح الله نجاد