التاريخ العربي هو تاريخ الكلمة واللغة والقصيدة والشعر، هو تسجيل للحظات، كان للكلمة حدّ السيف، وتغيير حرف بالكلمة وقع العاصفة، كثيرنا فقد ذاك الأمر الخاص جداً، ورحل عن لغة غاية في البلاغة والجمال إلى لغات أخرى ليس كثيرها على تلك الدرجة من العمق والفتنة، أي فتنة الكلمة ورهبتها أيضاً، الكلمة في التاريخ كانت أداة حرب عبر القصيدة، وأداة مدح وتمجيد للبطولات، وكذلك كانت وسيلة للنفاق المبطن لا النفاق الفج والمباشر والمبتذل الذي تحول إليه إعلامنا ومجموعات واسعة من البشر في هذه الدول التي تسمى أوطاناً، فالكل يعرف أن النفاق أصبح سلاحاً أيضا في السلم للتسلق على أكتاف الآخرين والوصول إلى الكراسي اللاصقة، ففي كل بقاع الكون تبقى الكراسي متعبة لطول الجلوس عليها إلا هنا في هذه البقعة الممتدة من المحيط إلى الخليج، هنا الكراسي لاصقة حتى ينتقل المسؤول إلى العالم الآخر!

لا يمكن أن تهمل لغة كما العربية، وأن تدمر كما يحدث يوميا على شاشات التلفزة، وأن تلوث بالسواد كما بقع النفط على صفحات مياه الخليج، لم يعد فيها مساحة للإبداع أو حتى لو وجدت فهي الأخرى تقلص القائمون عليها والمتابعون لها حتى أصبحوا لا يعدّون على أصابع اليد، وأغلقت المكتبات أبوابها لمصلحة مقاهي ستاربوكس المنتشرة، ولم تبتذل الكلمة فقط بل الكتب أيضا، فكل من لا مهنة له امتهن الكتابة في أشكالها المختلفة من الرواية إلى الشعر إلى المذكرات المغلوطة وغير المدونة بشكل دقيق حتى أصبح الأمر مدعاة للتهكم عندما يوصف حدث في لحظة تاريخية معينة ويكون كل أبطال الحدث قد توفوا منذ سنين، إلى هذه الدرجة يستهان بالكلمة والقارئ أي المتلقي معا.

Ad

هام الآخرون واستهووا ما يكرر من كلمات عربية بطريقة غير مفهومة، أو أن معناها يتحول بمجرد إسقاطها على واقعنا، فما تعني الشفافية التي ينادي بها أكثرهم بعداً عنها، وماذا عن المشاركة حين تقطع السنّ كل الأصوات المختلفة، وماذا يعني المديح الذي تحول إلى نفاق فج حتى يصاب المرء بالغثيان وحالة من القرف من كثرة المنافقين على أرض صح لها أن تسمى أرض النفاق بجدارة، ابتذلت الكلمات وشوهت اللغة التي كانت رمزاً لوحدة نادرة على وجه هذه الأرض، قال ذاك القادم من الاتحاد الأوروبي يوما إنه لا توجد ظاهرة مثلكم أي 22 بلدا بلغة واحدة، وإن تنوعت لهجاتها.

ديس على اللغة بالأقدام، وتحول العدد الأكبر من خريجي المدارس والجامعات إلى أميي لغة وجاهلي حروف، ولزيادة المذبحة اللغة تصور كثيرون أن هذه اللغة قد اندثرت، وعلينا الآن تحويلها إلى لغة "عصرية" تتماشى مع الكلمات المستوردة، كما هي البضائع المستودة والقهوة بنكهة القرفة والكرميل.

صار مشهد الكتب المتربة على الأرصفة وقربها الأحذية في فاترينات زجاجية متألقة مألوفاً جداً حتى إنه لم يعد يلفت نظر أحد لكونه تناقضا شديدا بين الكتاب الذي هو حامل وحاضن للكلمة والحذاء الذي يدوس الأرض ويمشي على الأوساخ! وليتهم ساووا الكتاب بالحذاء، بل إنهم فضلوا الأخير عليه فيما كان الشعر يعلق على الكعبة بأحرف سكنت الذاكرة حتى تربى الجيل الأول عليها وعشقها ورددها في مناسباته المبهجة وتفاخر بها في المحافل الدولية، كان السياسيون في الكثير من الأحيان شعراء أو هواة شعر ونثر ورجال الحكم وحتى كثير من العسكر!!

لغة تموت يعني أمة تتلاشى وينتشر بينها الجهل كالمرض المعدي، مما يزيد ابتعاد الشباب والشابات عن اللغة ربما لسوء التعليم والتدريس الذي تحول إلى تلقين، وربما كثرة كلمات النفاق عبر الأجهزة الإعلامية ووسائل التواصل الاجتماعي والمجالس الواسعة التي هي الأخرى تغير مفهومها وهدفها من كونها وسيلة ليلتقي الحاكم بالمحكوم الى مساحة للتباري في فن النفاق، وعند الخروج ينال كل منافق ما تيسر من الأراضي والغنائم الأخرى كلٌّ حسب درجة مديحه وتملقه وابتذاله.

عندما لا يعرف أبناؤنا من اللغة العربية الثرية والمليئة بالصور والمعاني الجميلة سوى بضع كلمات يتصورون أنها الأهم من كل شهاداتهم وخبرتهم فهنا يعم السفه، ويبدأ الهبوط التدريجي على الأرض الرخوة والرمال المتحركة، وضياع للهوية وجمال الحرف العربي في الشكل والنطق والمضمون.

* ينشر بالتزامن مع "الشروق" المصرية