في 12 ديسمبر ستشهد بريطانيا أهم انتخابات في تاريخها خلال حقبة ما بعد الحرب، فنتائج تلك الانتخابات لن تؤثر على مصير خطة "بريكست" فحسب، بل على احتمال إجراء استفتاء جديد حول عضوية البلد في الاتحاد الأوروبي، واستفتاء آخر حول الاستقلال في أسكتلندا، ونشوء أكثر نسخة متطرفة اقتصادياً من "حزب العمال" منذ جيل كامل، ومسار السياسة الخارجية والأمنية في بريطانيا، وأخيراً مكانة البلد في النظام الدولي عموماً.

إذا اكتفينا بالنظر إلى أحدث استطلاعات الرأي، قد تبدو النتيجة شبه مؤكدة، فمنذ أن صوّتت أغلبية النواب على قرار تنظيم الانتخابات، حصد "حزب المحافظين" الحاكم 38% من الأصوات، و"حزب العمال" المعارض 27%، وحزب "الديمقراطيين الأحرار" 16%، وحزب "بريكست" 10%، وحزب "الخضر" 4%، و"الحزب القومي الأسكتلندي" 3%. يتفوق رئيس الحكومة بوريس جونسون وحزبه حتى الآن بفارق 11 نقطة تقريباً، وإذا استمرت هذه النتيجة حتى موعد الانتخابات، فمن المتوقع أن يحصد أغلبية مريحة.

Ad

كذلك، يستطيع جونسون أن يشير إلى معايير أخرى تصبّ في مصلحته، فحين سُئل الناخبون عن "أفضل رئيس حكومة"، اختارت أغلبية واضحة (43%) جونسون، في حين اختارت أقلية صغيرة (20%) زعيم "حزب العمال"، جيريمي كوربين. تكشف الاستطلاعات أيضاً أن الناخبين يثقون بجونسون أكثر من كوربين للتعامل مع مسألة "بريكست" والشأن الاقتصادي والجرائم، في حينه يميل كوربين إلى التفوق حصراً في الملف الصحي. هذه المعطيات كلها توحي بأن بريطانيا ستعطي الأغلبية لـ"حزب المحافظين" وستمرر قانون اتفاقية الانسحاب في بداية عام 2020.

لكن تخفي هذه الاستطلاعات أيضاً تحولات أخرى كثيرة بدأت تتّضح معالمها، ويبدو أنها مُجتمعةً تجعل الانتخابات العامة لعام 2019 غير متوقعة. يتعلق أحد العوامل المؤثرة بالقيادة؛ صحيح أن جونسون يحصد علامات أعلى من جيريمي كوربين على مستوى حس القيادة، لكن يجب ألا ننسى أن ما يجمع الجيل الراهن من قادة الأحزاب في بريطانيا هو تراجع شعبيتهم جميعاً. تكشف بيانات معهد "إيبسوس موري" أن جونسون يسجّل أدنى النقاط مقارنةً بأي رئيس حكومة جديد، لكن يحصد جيريمي كوربين من "حزب العمال" أدنى نسبة تأييد مقارنةً بجميع قادة المعارضة على الإطلاق.

يرتبط تحوّل عميق آخر بالانقسام السائد، وتبرز مفارقة كبرى منذ أن صوّت البلد على قرار الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، فقد أصبحت بريطانيا "أوروبية" بدرجة إضافية، وخلال السنة الماضية انفجر الوضع وتحوّل واحد من أكثر الأنظمة استقراراً في العالم إلى منافسة بين أربعة أحزاب بعدما انحصر الصراع دوماً بحزبَين. اليوم يطرح حزب "الديمقراطيين الأحرار" المعارض لخطة "بريكست" وحزب "بريكست" المُشكّك بالاتحاد الأوروبي، بقيادة نايجل فاراج، تحديات جدّية على الحزبَين الرئيسين في البلاد.

وفي الطرف الآخر من الطيف، يواجه المحافظون تهديداً مماثلاً لكن أقل حدّة. بدأ نايجل فاراج وحزب "بريكست" يجذبان شخصاً واحداً من كل عشرة صوّتوا لـ"حزب المحافظين" في عام 2017، وبالتالي سيجد بوريس جونسون صعوبة متزايدة في حصد مقاعد نواب "حزب العمال" الداعمين للانسحاب من الاتحاد الأوروبي. ثمة أدلة واضحة على أن جونسون ينجح في كبح مسار فاراج، لكن لم تتّضح بعد نتيجة هذه الخصومة في معسكر اليمين على مستوى توزيع المقاعد.

يمكن رصد دليل على مسار المرحلة المقبلة في نِسَب التأييد المرتبطة بحس القيادة. يفضّل 80% من الناخبين المنتمين إلى حزب "بريكست" جونسون على كوربين، في حين تقتصر نسبة داعمي كوربين على حساب جونسون في حزب "الديمقراطيين الأحرار" على 25%. لذا من الأسهل أن يضمن جونسون التصويت على قرار الانسحاب، ومن الأصعب في المقابل أن يحصد كوربين التأييد على قرار البقاء في الاتحاد الأوروبي.

يكشف هذا الوضع سبباً آخر يجعل الانتخابات غير متوقعة: التقلّب المستمر. ستكون هذه الانتخابات المرتقبة خامس انتخابات بريطانية وطنية خلال أربع سنوات فقط، فبعد الانتخابات العامة في 2015، والاستفتاء حول الاتحاد الأوروبي في 2016، والانتخابات العامة في 2017، وانتخابات البرلمان الأوروبي في 2019، يشهد النظام السياسي وقاعدة الناخبين في بريطانيا حالة من التبدلات المتواصلة. على مر هذه الفترة كلها، أقدم عدد كبير من الناخبين على إعادة النظر بولاءاتهم.

توضح "دراسة الانتخابات البريطانية" أن "تبدّل الأصوات" راهناً في السياسة البريطانية، يُعتبر غير مسبوق في حقبة ما بعد الحرب، فعلى مر الانتخابات الثلاثة في 2010 و2015 و2017، غيّر 49% من الناس وجهة تصويتهم.

لا يقتصر التغيير على موضوع "بريكست"، بل بدأ التعلّق بالحزبَين الرئيسين يضعف منذ الستينيات، لكن تُسَرّع "بريكست" هذه العملية لأن الهويات القبلية المنقسمة بين مؤيدي البقاء أو الانسحاب تخترق اليوم الولاءات الحزبية التقليدية، ولا يوحي هذا التقلّب بحصول تحولات إضافية في نِسَب التأييد خلال الحملة الانتخابية فحسب، بل إنه يدعونا أيضاً إلى التشكيك بأي توقعات حول نتيجة الانتخابات، مهما بدت جديرة بالثقة.

* ماثيو غودوين

* «تشاتام هاوس»