منذ ثلاثين سنة أنذر سقوط جدار برلين بنهاية الحرب الباردة، وبعدما غرقت قوتان نافذتان في خصومة خطيرة امتدت على عقود طويلة بعد الحرب العالمية الثانية، لم تَبْقَ منهما إلا قوة واحدة، ثم مهّد نظام عالمي اعتُبر على نطاق واسع "ثنائي القطب"، مع أنه مفهوم مُضلِّل، لنشوء حقبة جديدة اعتُبِرت على نحو مُضلّل أيضاً "أحادية القطب".

أدى ظهور هذا النظام الأحادي القطب إلى انتشار أجواء من النشوة المطلقة في واشنطن، وأقنع كبار المسؤولين في أوساط السياسة الخارجية أنفسهم بأن حقبة من الوعود غير المسبوقة بدأت، على اعتبار أن الولايات المتحدة لن تستفيد وحدها من هذا الوضع بل العالم أجمع. بدا المسار المرتقب واضحاً، ولتحقيق هذه التوقعات السعيدة كلها كان يكفي أن تثبت الولايات المتحدة أنها تتمتع بالمستوى المطلوب من حس القيادة.

Ad

في نهاية المطاف، كان حس القيادة العامل الذي سمح للولايات المتحدة بفرض سيطرتها خلال الحرب الباردة، وبالطريقة نفسها، كان متوقعاً أن تحصد الولايات المتحدة الآن منافع ذلك النصر بما يصبّ في مصلحتها ومصلحة الآخرين، فمن كان يستطيع معارضتها أصلاً؟ ومن كان ليجرؤ على تحدي أهداف وطموحات "الدولة التي لا يستغني عنها العالم"؟

يعني اكتساب الولايات المتحدة حس القيادة المطلوب أن تتمسك بالتزاماتها وأولوياتها وعاداتها، ولا سيما مكانتها العسكرية التي تطورت منذ عام 1945، من دون أن تتغير أسس سياسة الأمن القومي الأميركية، أي دور البلد كشرطة للعالم.

بعد ثلاثة عقود على بدء هذه الحقبة من التفوق الأميركي الظاهري، من حقنا أن نقيّم تداعياتها، إذ يمكن القول إن النتائج كانت مخيّبة للآمال على أقل تقدير، فلا تزال التوقعات المنتظرة من "النظام العالمي الجديد"، كما سمّاه الرئيس جورج بوش الأب بكل ثقة يوماً، غير مُحقّقة. وعند تحليل الخصائص التي طبعت تلك الحقبة (أي تحوّل الصين إلى قوة عظمى، وفقدان أوروبا أهميتها الجيوسياسية منذ وقت طويل، وتعرّض معظم مناطق الشرق الأوسط للعنف وزعزعة الاستقرار، وإطلاق ردة فعل متأخرة جداً للتعامل مع التغير المناخي)، يتّضح لنا أن النموذج الأميركي في قيادة العالم كان فاشلاً عموماً أو أعطى نتائج عكسية.

ما السبيل للتعويض عن الفجوة المتزايدة بين التوقعات والنتائج؟ يمكن طرح الجواب الأولي التالي: بعدما أساءت الولايات المتحدة فهم طبيعة الحرب الباردة بحد ذاتها، عادت وأخطأت في تفسير تداعيات نهايتها المفاجئة في عام 1989.

لا شيء أخطر من أن يصدّق الشخص حملته الدعائية الخاصة، لكن هذا ما أصاب الولايات المتحدة خلال الفترة الفاصلة بين أواخر الأربعينيات ونهاية الثمانينيات. جاءت الحرب الباردة الأسطورية التي كانت من صنع نُخَب سياسية وفكرية وإعلامية هستيرية أو متشائمة لتخفي المشكلة الحقيقية.

في ظل مجموعة من المجازفات "الوهمية"، انتهت الحرب الباردة أخيراً بشروط تصبّ في مصلحة الولايات المتحدة، فسارعت أوساط كينيدي السياسية والفكرية والإعلامية إلى اعتبار هذه النتيجة جزءاً من العناية الإلهية أو إنجازاً تاريخياً. وفق التحليل الذي يفضّله المعنيون، اعتُبِر سقوط جدار برلين في عام 1989 حُكْماً قاطعاً ولا رجعة فيه لتحديد مسار المستقبل، حيث تتمتع الولايات المتحدة بالنفوذ الكافي لرسم معالمه. أدى هذا التصور مجدداً إلى فصل السياسة عن المنطق.

نحن نتحمّل اليوم عواقب ذلك الفصل: اعتداءات 11 سبتمبر على مركز التجارة العالمي، وحروب متعددة تشبه بجنونها حرب فيتنام، وعهد دونالد ترامب الغريب، ولو بطريقة غير مباشرة.

لن نسمع هذا الرأي من المرشحين الذين يتنافسون على تولّي الرئاسة بعد ترامب، لكنّ إخفاقنا في فهم حقيقة الحرب الباردة لا يزال يطاردنا، وخلال الحملات الانتخابية يكتفي السياسيون بتكرار عبارات مبتذلة ومريحة عن أهمية الدور الأميركي في قيادة العالم، لكن زمن هذه السخافات منذ وقتٍ طويل انتهى.

لتدعيم سياسة الأمن القومي بالمنطق مجدداً، تقضي أول خطوة أساسية بفهم حقيقة الحرب الباردة: لم تكن هذه الحرب "صراعاً طويلاً" انتهى بتحقيق النصر، بل مأساة كبيرة ومكلفة سبّبت معاناة غير مبررة وكادت تنسف الجنس البشري على نحو سخيف، وقد استخلص صانعو السياسة الأميركية منها جميع أنواع الدروس الخاطئة.

يجب ألا تكون ذكرى سقوط جدار برلين مناسبة للاحتفال إذاً، بل فرصة حزينة، ولو متأخرة، للتفكير بحقيقة ما حصل.

* أندرو باسيفيتش

* «لوس أنجلس تايمز»