عبر تظاهرات ومؤتمرات ومحاضرات شبابية فكرية وثقافية وإعلامية كثيرة، على امتداد البلدان العربية، حتى المشتعلة بأوجاعها وحروبها، يبدو حماس وبهجة الشباب العربي واضحين، كما يبدو قربهم من نبض المستقبل لافتاً، وهم في كل ما يتعاطون يقدمون وجهاً متفائلاً ونابضاً بالعطاء في لحظة عربية تكاد تكون واحدة من أكثر لحظات التاريخ العربي الحديث إحباطاً وخيبة. هذا المشهد يبدو لي متناقضاً وضارباً بمشهد آخر، يتجلى ذلك، بالنسبة إلي، من خلال وصلي واتصالاتي بمجموعة كبيرة من مفكري ومبدعي وفناني الوطن العربي، سواء من هم في داخل أوطانهم، ومن اتخذوا من الغربة والشتات وبلدان الآخر ملجأ لهم.

عدد كبير من مفكري ومبدعي ومثقفي الوطن العربي، يعبّرون عن مرارة الواقع المعاش حالياً، وأن أوطانهم العربية تمرّ بواقع اجتماعي واقتصادي وسياسي وعسكري متفجر، وأن العدوان والوحشية والدم باتت لوناً طاغياً على لوحة مشهد الواقع، وأن التعاطي مع هذا الواقع فكرياً وإبداعياً وثقافياً بات صعباً جداً ومربكاً لدرجة توقف بعضهم عن الكتابة أو الرسم، أو إقدامهم على إنتاج أعمال إبداعية يطغى عليها طابع التشاؤم، أو على أقل تقدير محاولة تقديم الواقع بشيء من واقعيته المريرة.

Ad

بين مشهدين متقابلين ومتناقضين، تبرز قضية موقف المثقف مما يجري في بلده، خصوصاً في لحظات التاريخ الملتهبة، وكيف له أن يقول كلمة وسط لعلعة الرصاص، وأن ينتبه أحدٌ لصوته وسط مكبرات ضجيج اللحظة، وكيف لأحد آخر أن يقرأ ما يكتب، بينما هذا الآخر لا يجد لقمة عيشه، وفي أحيان كثيرة تمَّ تهديده وتهجيره من بلده، وسكن خيام وحشة اللاجئين. إن موقف المفكر والمبدع والمثقف العربي خلال هذه الفترة موقف حساس، وموقف مرصود من جموع كثيرة، تتعامل معه بوصفه صوتاً لأمته، وبوصفه مالك كلمة مغايرة، وبوصفه يحمل على عاتقه ما يقدمه إلى مجتمعه لحظة يحتّم فيها عليه واجبه الوطني ذلك.

إن الراصد للمشهد الإبداعي الثقافي، وتحديداً: القصة القصيرة والرواية واللوحة التشكيلية والفيلم السينمائي والعروض المسرحية على ندرتها، في بلدان مثل العراق، وسورية، ولبنان، ومصر، واليمن، والسودان، ودول الشمال الإفريقي، يرى بوضوح أن المعاناة اليومية هي المحرك الرئيسي لهذا الإبداع، ويرى أن رصد العيش اليومي للمواطن العادي هو الأكثر حضوراً في هذه الأعمال، حتى لو جاءت مستعينة بالتاريخ أو الفانتازيا. وهذا إن دلَّ على شيء فإنما يدل على صدق المفكر والمبدع العربي في تبني قضايا وطنه، وفي أن يكون صوتاً صادقاً لمعاناة شعبه. مع أن رصداً آخر لحركة الكتاب العربي يظهر ودون كثير عناء أن عدداً كبيراً من الشباب العربي يركض وراء النتاج الشبابي الذي يشبهه، حتى لو كان ذلك النتاج لا يتوفر للعناصر الأساسية للعمل الفني.

واضح جداً تشظي المشهد الثقافي العربي، وولادة واقع ثقافي عربي جديد. ويمكن الاستدلال على مجموعة من الاستنتاجات التي تُبنى على هذا التشظي، وعلى رأس تلك الاستنتاجات القول إن هوة كبيرة وبوناً شاسعاً صار يفصل بين أجيال الشباب وأجيال المريدين، وأن كلا الطرفين يعمل بفكر وقناعة مختلفة لا تمت بصلة للآخر، وأن لجيل الشباب لغته وتجمعاته التي لا يسمح لأحد بالاقتراب منها أو دخولها. وأنه بقدر ما كان جيل المريدين قد دخل ساحة الفكر والكتابة الإبداعية عبر قناعة قدسية الكتابة وأهمية الفن ورسالته، فإن شباب اليوم دخلوا الكتابة محمولين على هموم أخرى، لها علاقة بالواقع من جهة، ولها علاقة أكبر بعصر شبكات التواصل الاجتماعي والشهرة، وعصر مواقع محركات البحث، وأخيراً عصر "الثقافة السائلة" كما يرد في كتابات الفيلسوف البولندي "زيجمونت باومان -Zygmunt Bauman) "1925 -2017)