نكصت الحكومة مجدداً عن تعهداتها، لاسيما فيما يتعلق بضبط الهدر المالي في الميزانية، إذ أعادت إلى الواجهة خطط تأسيس الهيئات العامة، رغم أنها هي التي قررت عام 2016 وقف تأسيس أي هيئة جديدة؛ نظراً لتكاليف إنشاء الهيئات العالية مادياً.

فقد قدمت الحكومة أخيراً مسودة قانون تأسيس هيئة الأراضي والعقارات بهدف ــــ كما نصت المسودة ـــ إعادة تنظيم أملاك الدولة وتطوير النشاط العقاري من حيث تنظيم أنشطة الإعلان والتقييم والترخيص، وتنظيم العلاقات بين المؤجرين والمستأجرين، ووضع تدابير استقرار السوق العقاري، وإعداد الدراسات العقارية المتخصصة، وتوفير المعلومات والبيانات عن الأراضي والعقارات، وإنشاء قاعدة بيانات مركزية، وحتى نشر المعرفة العقارية، وهي أهداف بلا شك مستحقة ومطلوبة، لكن لا تتطلب على الإطلاق إنشاء هيئة جديدة؛ لأن معظم ما ورد في القانون يعد من أهداف واختصاصات إدارة أملاك الدولة في وزارة المالية وإدارة العقار في وزارة التجارة والصناعة.

Ad

ومع الاعتراف بفوضى السوق العقاري، فإن الحديث عن وجود هيئة ستحل مشاكله هو أمر منافٍ للواقع، إذ مع تأكيد أهمية تطوير الإدارتين المختصتين في وزارتي المالية والتجارة سيكون وجود بورصة عقارية حلاً جوهرياً لمعظم مشكلات التقييم والترخيص والبيانات مع تراكم الخبرة، وهو عمل مهني لكنه مستحق وأفضل بكثير من وضع السوق العقاري تحت سلطة هيئة جديدة ربما تحتاج لسنوات ـــ كما حدث في غيرها ـــ لبدء أعمالها.

ضرر التوسع

ولعله من المفيد القول إن ضرر التوسع في تأسيس الهيئات العامة خلال السنوات الأخيرة فاق جانبها المالي، إذ ساهمت هذه الهيئات في تفريغ الوزارات من اختصاصاتها دون أن تقدم جديداً، حتى بات الإنجاز في أعمال الهيئات استثناء من القاعدة، وهنا يمكن التطرق لأمثلة كثيرة لهيئات وصناديق وأجهزة عوّل المسؤولون عليها عند إنشائها في تحقيق تقدم اقتصادي ومالي وتنموي للكويت، ثم جاءت النتائج أقل بكثير من المتوقع في أفضلها، مع تعثر العديد منها، فمثلاً نجد أن الصندوق الوطني للمشروعات الصغيرة والمتوسطة برأسمال ملياري دينار يعيش أزمات إدارية لا تكاد تنتهي منذ بداية تأسيسه قبل 6 سنوات، وجل الشكاوى التي يعانيها المبادرون تتعلق بالاختصاصات الأصلية للصندوق، كمصاعب التمويل وشبه استحالة الحصول على أراضٍ.

أما هيئة الاستثمار المباشر «الأجنبي»، فقد جذبت حسب إحصائية مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (الأونكتاد) استثمارات أجنبية مباشرة بقيمة 346 مليون دولار في عام 2018، أي أقل بمليوني دولار عما جذبته في عام 2017 مع محدودية لافتة في التطلعات، إذ تستهدف توفير 200 فرصة عمل فقط للكويتيين في الشركات الأجنبية المعفاة من الضريبة في بلد يناهز عدد القادمين لسوق العمل به سنوياً 20 ألف شخص.

حرمان المواطنين

أما هيئة مشروعات الشراكة بين القطاعين العام والخاص، وهي الهيئة التي أسست عام 2014 بهدف خلق علاقة جديدة بين القطاعين، ومفيدة للاقتصاد بما يدعم مشاريع «BOT» و»PPP»، بدلاً من تنفيذ المشاريع عبر المناقصات العامة، لم تنفذ حتى اليوم إلا مشروعاً واحداً هو شركة شمال الزور الأولى، وجارٍ تنفيذ محطة أم الهيمان للصرف الصحي، أما بقية مشاريعها الأخرى التي يبلغ عددها 11 مشروعاً، وأبرزها مترو الكويت والمدن العمالية ومحطة العبدلية للطاقة الشمسية ومحطة الخيران لتوليد الطاقة الكهربائية وتقطير المياه وغيرها، فهي ما بين مراحل (الطرح ــــ ما قبل الطرح ـــ اختيار المستشار) وخلال سنوات عمر هيئة الشراكة أنفقت الدولة على المناقصات العامة أكثر من 21 مليار دينار كان يمكن توفير جزء ضخم منها لو أن مشاريع الشراكة فاعلة بشكل حقيقي، مع العلم أن بطء تنفيذ مشاريع الشراكة بين الخاص والعام يحرم المواطنين من المساهمة في حصتهم من رأسمال الشركات المدرة لهذه المشاريع فيكون الضرر مزدوجاً على الدولة والمواطن.

أهداف ومؤشرات

في المقابل، لا يزال جهاز حماية المنافسة بعيداً عن أهدافه المرجوة وحتى دراسته الخاصة بالممارسات الضارة بالمنافسة في السوق لم تجد لها طريقاً في التنفيذ، والعديد من القضايا المطلوب بحثها كعمليات الاحتكار والاندماج متشابكة مع جهات أخرى مثل هيئة الاتصالات أو البنك المركزي، وجارٍ تعديل القانون، حسبما أعلن الجهاز لتحقيق مزيد من المرونة في أعماله، أما الهيئات غير الاقتصادية بشكل مباشر فبعضها متشابك في الأعمال ومتشابه في الاختصاص، فتأسيس هيئة لمكافحة الفساد (نزاهة) إلى جانب جهاز المراقبين الماليين فضلاً عن الجهة الرقابة الأضخم ديوان المحاسبة يفترض أن يؤدي إلى اختفاء أي عمليات فساد مالي، وحتى إداري، لا أن يكون ترتيب الكويت في مؤشرات مدركات الفساد العالمي، حسب آخر تصنيف، هو 78 عالمياً، فضلاً عن أن هيئة الطرق التي كان الغرض الأساسي منها تطوير البنى التحتية قدمت أسوأ النماذج الفنية والإدارية خلال أزمة الأمطار العام الماضي.

اللافت في مسألة تأسيس الهيئات أنها باتت بيئة جديدة للفساد الإداري الحكومي من حيث التعيينات الباراشوتية وانفلات نظم الرواتب والمكافآت بأضعاف ما هو دارج في القطاع العام، و»التضبيط»، إذ خلال نحو 10 سنوات سابقة شهد النظام الإداري تسابقاً على تأسيس الهيئات الحكومية لم تسلم معظمها من أمراض الإدارة العامة من حيث ضعف الإنجاز وسوء التنفيذ وتفشي الصراعات والمجاملات في التعيين والترقيات، لأن أصلاً فكرة الهروب من الحل ليست حلاً لأي مشكلة، إذ كان من الأولى العمل على إصلاح القطاع العام والاحتفاط باختصاصاته بدلاً من تأسيس كيانات مستقلة سرعان ما أصابتها عدوى مرض الإدارة الأصلية.