كانت الهتافات دوما للزعيم، وكان الناس لا يعرفون إلا ترديد بالروح بالدم، كان ذلك عندما كانت الشعارات تقليدية، ولم يبتكر تجار التصفيق "للواقف" التجديد فيها، أما الآن فبقي بعض أثر تلك الشعارات، إذ ما زال بعضهم لا يعرف سوى الولاء التام أو الموت تحت عجلات الطاعة لشخص ما، شخص يتحول بفعل فاعل أو بفعل قبيلة أو طائفة أو دولة أو جيش أو سلطة إلى زعيم، رغم أن كلمة زعيم أصبحت فضفاضة وقابلة لأن تكون على حجم الصغير قبل الكبير.

صغر الزعماء كما كانوا يسمونهم، وما زال بعضهم لم يكبر أبدا لا بسياساته ولا بصراخه ولا خطاباته بعربية مكسرة تحث على الولاء أكثر، والتخويف من القادم إن هم انتفضوا أو رفضوا بعض السياسات المتخبطة، ولكنها لا تحيد عن ذلك الخط، مزيد من الثراء لهم، وكثير من الفقر والعوز والوجع للآخرين، كل الآخرين من ملايين بقيت فترة طويلة مؤمنة أن هذا الصغير القادم يملك العصى السحرية التي ستزيل آثار سنين الفساد والظلم.

Ad

هم أيضا ربما صدقوا تلك الكذبة، ولذلك كان من السهل اللعب على مشاعرهم بالتحشيد والتخويف من العدو الرابض عند خاصرة الوطن القادم ليحرق زرعهم ويهدم بيوتهم، هنا تثار النخوة لدى الجموع التي تسير أحيانا، وتحكم كما يسير الراعي قطيع الماعز فوق التلال والجبال الموعرة، لم يعرفوا يوما أن العدو حقيقة هو الراقد فوق فراش الحرير في ذلك القصر بأسواره العالية وحراسه بعضلاتهم المفتولة والأسلحة الحديثة، ربما تكون قد بيعت لهم مؤخرا ضمن تلك الصفقة الشهيرة التي أعلنها هو بسخرية شديدة ذات يوم في بيته الناصع البياض بملح أرضهم!

كانت تلك اللحظة هي من كسر ذاك الحاجز وأخفته "سكرة" الشعب الذي صدق أنه عظيم فقط لأنهم كانوا يرددون في استهلال خطاباتهم بعربية مكسرة، وتلعثم في لغتهم الأم "أيها الشعب العظيم" وهم يعرفون أن بعض تلك الشعوب قد تصدق وبعضها الآخر قد تخاف، وفي الحالتين النتيجة واحدة أن يعضّ الناس على جرحهم ويستمروا معولين على الله ربما أو على معجزة من السماء أيضا، فلم يعد لأرضهم قلب يرى ويسمع الأنين.

قبل الكثيرون بطاعة "ولي الأمر" أو "أولياء الأمر"، فهم أحيانا واحد وأحيانا كثر مختلفون في كل شيء إلا على توزيع الغنائم، كما كان الأولون قبل أكثر من ألف سنة عند الغزوات، فيصبح كل شيء قابلا لأن يتحول إلى مجرد غنيمة حرب حتى النساء! الآن هو زمن الغنائم بحروب اقتصادية وصفقات تجارية كلها تتشابه، فتعددت الأشكال والمضمون واحد!

استبدلت عبارة "بالروح بالدم" وتحولت إلى "الشعب يريد" أو "الشعب جعان" أو "وينكم يا حكام"، وراح كل منهم يسرد عذاباته على الملأ عبر شاشات التلفزة رغم أن كثيراً منها ملك لتلك الطبقة نفسها، كل الإعلام لهم والبرلمانات لهم والتجارة لهم والصناعة لهم حتى "الخبز" وسندويش الشاورما يريدون قطعة منه! فحرام أن يستفرد الفقير بمحله الصغير الذي يعيل به أهله ويعلم أطفاله وربما يستطيع أن يوفر لهم الطبابة.

هم أيضا قرروا أن الحكومة أو الدولة أو القبيلة أو الزعيم ليسوا مسؤولين عن توفير الحاجات الأولية للمواطنين، وتدريجيا تحولت المدارس والمشافي إلى "بوتيكات"، كل حسبما يملك، الطب الجيد للأثرياء وللفقراء التجارب في غرف العمليات المتسخة أو الموبوءة، فإما يموت المريض بخطأ طبي أو بجرثومة بدت له في مستشفى العامة لا مستشفى النخبة الفاخر بمطاعم ومقاهٍ وأحيانا حتى بموسيقى حية!

وما زاد الطين بلة أنهم قرروا أن على الشعب أن يغطي إفلاس اقتصاداتهم أو حتى ضعفها وعدم قدرتها على الصمود، لا وزير يتجرأ ليفسر للعامة لماذا أفرغت الخزائن من أحشائها؟ ولماذا تحولت العملة إلى مجرد ورق؟ ولماذا أفقرت حتى الطبقة التي كانت لسنين طويلة متوارثة تقوم بنشاط أهلها الاقتصادي وحريصة على ألا ترفع أسعارها عندما كان هناك "تجار وطنيون" برجوازية وإقطاعية وطنية، ربما هي اللحظة ليقظة متأخرة بعض الشيء لكنها قد تكون الإنذار الأخير، فقد طفح الكيل ولم يعد للصبر صبر.

* ينشر بالتزامن مع "الشروق" المصرية