التقيته مصادفة، بعد أن كنت فقدته في زحمة اهتماماته الذاتية، إلا أن المودة ظلت بيننا راسخة. صديق قديم، قضى جزءاً كبيراً من العمر متنقلاً من منصب إلى منصب، في أجهزة الدولة، وللدقة الحكومة، كونها جزءاً من الدولة.

فـ "جهاز أمن الدولة" مثلاً يفترض أن يكون دوره حماية أمن الدولة (بمكوناتها الرباعية الشعب والأرض والحكومة والسيادة) لا أن يكون جهازاً يحمي أمن الحكومة ومسؤوليها، فإن انتقد شخص مسؤولاً حكومياً تتم ملاحقة الذي أظهر الأدلة على الفساد، أو الانحراف، وبدلاً من التحقيق في تلك الاتهامات تتم ملاحقة ذلك الإنسان، الذي يطلق عليه هذه الأيام في أدبيات مكافحة الفساد "مطلق الصفارة". ما علينا، استرسل صديقي في الحديث عن ترهل وتراجع أجهزة الدولة، وانتشار الفساد فيها، وطغيان البيروقراطية، وهيمنة القلة على القرار لمصالحهم الضيقة، مصطلحات كان يتضايق منها عندما كان مسؤولاً. صديقي القديم ذاك، له ما له، وعليه ما عليه، فهو إنسان نزيه، لا تحوم حوله شائبة فساد تذكر، لكنه، يغض النظر عن الفاسدين حوله، ويجد لذلك التغاضي مبررات لا تعد ولا تحصى، من أمثال شعبية، أو أشعار، أو حتى مقولات دينية. وعلى الرغم من أنه تنقل بين مواقع رسمية عديدة، لكن دون إنجازات تذكر، فهو لا يخرج من مكان حتى يدخل إلى مكان أعلى. صديقي ذاك، من أيام الدراسة، كان متوسط الذكاء، قدراته عادية جداً، تقليدياً، يهز رأسه متفقاً حتى لو كان لا يتفق، ليس له رأي في أي شيء، "كتويل"، حيثما مالت الرياح يميل، وربما لذلك تقلد تلك المناصب.

Ad

سألته، يا صديقي، ولماذا تشكو لي؟ كم منصباً شغلت؟ فماذا فعلت؟ وماذا أصلحت؟ وماذا عدلت، وعلى كم فساد قضيت؟ ابتسم نصف ابتسامة، قائلاً: لم أكن راضياً، ولكن الظروف أقوى مني، وألحق ذلك بقصيدة عصماء، وعبارة شماء. ولعدم جدوى الاسترسال بالحديث قلت له حدثني عن هواياتك بعد التقاعد، وكيف تقضي وقتك، بعد أن أصبحت بلا سلطة، وهل تشعر بفراغ أم لا؟ أجاب بكل اقتدار، وثقة تكاد تصل للغرور، فالفرق بين الثقة بالنفس والغرور، كالفرق بين شيكين، الأول برصيد والثاني بدون رصيد، "تعرف أنني قلق جداً على حال البلد، وبالذات الجهة التي تركتها، فلا أعرف كيف يديرون الأمور بدوني". سألته، يعني الشكوى من تدهور حال البلد هي بسبب خروجك أو إخراجك للتقاعد؟ لا، قالها بشيء من التواضع، "ولكن بالتأكيد لها دور، فأنت تعرف الأماكن الحساسة والمهمة التي توليتها، وتعرف كيف كنت أديرها بحزم واقتدار. كيف يديرونها الآن لا أعلم، ولكني متأكد أنهم (محتاسين) ولا يعرفون شيئاً". هكذا هي إذاً، يا صديقي، "آن لأبي حنيفة أن يمد رجليه"، و"السلام على من اتبع الهدى"، أما "الناس والدولة والأرض وربما حتى الحكومة بكل اختلالاتها، فلهم رب يحميهم".