شبَّ الأديب والمؤرخ خالد سعود الزيد (1937 -2001) على روح التحقيق والتنقيب والمعايشة لما يقرأ، فقرأ في صباه الشعر الجاهلي وهو في الصحراء، ليشهد أوائل الشعراء وما وصفوه، وصورهم الشعرية المستمدة من البيئة وما أنتجوه.

وفي مارس 1980م خرج الزيد إلى البر هو وأسرته في عطلة الربيع - على عادة أهل الكويت- حين كانوا يخرجون إلى البر- وما زالوا- ويمكثون هناك، حتى انتهاء عطلة منتصف العام الدراسي.

Ad

وفي هذا العام خيَّم الزيد بمنطقة الصبية، وأخذ يجوب أرضها، مستذكراً ما قرأه عن هذه المنطقة؛ تاريخياً وأدبياً، ومن خلال قراءته المكثفة حول تاريخ الكويت ومنطقة الجزيرة العربية، فضلاً عن استخراجه لمادة الكويت من كتاب "دليل الخليج العربي" لمؤلفه لوريمر (J. G. Lorimer)، في تلك الفترة استطاع الزيد أن يصل بثاقب بصيرته وحديد بصره إلى أنه يقف على أرض تاريخية كانت مأهولة من آلاف السنين، ثم بدأت الشواهد التاريخية تتجلى له واحدة تلو الأخرى، حتى عثر على جرة كان يعبث بها أحد أطفال سكان المنطقة الأصليين، فاستأذنهم في أخذها، فوهبوها له وكانوا فيها من الزاهدين، وذلك بعد أن شاهد عدداً من الجرار المكسورة التي يلهو بها الأطفال من حين إلى حين، ثم تهوي إلى الأرض مهشمة دون أن يعي رجال تلك المنطقة وأطفالها أهمية هذه الجرار وقيمتها التاريخية.

وكان المستشرق الهولندي أرنادو و. فيرديل يعتبر "جرة الصبية" أحد نماذج الرقي الثقافي الذي وصل إلى درجة تستحق التسجيل.

عندها أدرك الزيد أهمية الأمر بالنسبة لتاريخ الكويت، فلجأ إلى مخاطبة وكيل وزارة الإعلام في رسالة كتبها يوم الخميس الموافق 27 مارس 1980م، فلم يلقَ الأمر من الوزارة اهتماماً، وسعت إلى طمسه وعدم إثارته يومها، فتلقفت الصحف المحلية هذا النبأ العظيم، ساعية إلى توسيع رقعته، وكانت صحيفة السياسة هي التي أخذت بزمام المبادرة، وعلى صفحاتها تبدَّى الخلاف بين مؤيد لما ذهب إليه الزيد من اكتشافه لمدينة أثرية، وبين معارض له بشدة.

إنه قرأ وحقق، وخرج إلى الصحراء، ليصل بفطرته البحثية، وفطنته الثقافية إلى أن رأس الصبية المتصل بجون الكويت كان مأهولاً بالسكان إلى عهد قريب، وربما كانت هناك مُدن غطتها الرمال، وأن هذه المنطقة عُرفت تاريخياً باسم "جرهاء"، وهي مقلوب ما يعرف اليوم باسم "جهراء"، والقلب في أسماء الأماكن جائز في العربية.

إنه أراد أن يعطي باستنتاجاته البحثية واكتشافه الأثري بُعداً حضارياً للكويت، يجعلها موصولة بتاريخ المنطقة جغرافياً، ويصل بها إلى ما قبل العصر الإسلامي. كان يريد من المؤسسة الثقافية أن تصغي إليه، وتعيره اهتماماً، وتأخذ الموضوع مأخذ الجد، فلم يعط الحق في الحديث، فآثر بدوره صمت العلماء على ثرثرة الجهلاء، ووضع نتائج بحثه عن "الصبية" في أدراج مكتبه، وطوى صفحة الموضوع، إلى أن جاءت البعثة الألمانية إلى الكويت في مطلع عام 1999م، لتؤكد ما قاله (الزيد) من قبل، كما أُعلن في نوفمبر من العام نفسه، وبشكل رسمي، عن مواقع أثرية في منطقة الصبية، وأن هناك بعثة بريطانية وفريق عمل كويتيا متخصصا يعملان على التنقيب في المنطقة، وأنه تم اكتشاف مجموعة من القبور الركامية بمنطقة الصبية، وفي موقع "الطبيج"- وهو من أقدم المواقع الموجودة في منطقة الخليج العربي- تم العثور على مجموعة من المنازل والغرف التي تعود إلى الألف الخامس قبل الميلاد مع مجموعة من الفخاريات التي كان يصنعها الإنسان في تلك الفترة، وذلك ما دلل عليه (الزيد) مستشهداً بأحد كبار مؤرخي اليونان يومئذ.

بيان صحافي

وهذا هو نص البيان الصحافي الذي أعلنه الزيد يوم السبت بمقر رابطة الأدباء بتاريخ 29 مارس 1980، إذ قال فيه:

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهم صل على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم

ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء

إن بداية هذه الرحلة التاريخية كلمات أشار إليها الأستاذ راشد عبدالله الفرحان في كتابه (مختصر تاريخ الكويت) عن الصبية والصابئة أسندها إلى التحفة النبهانية وإلى ما كتبه الأستاذ محمود بهجت سنان في كتابه (الكويت زهرة الخليج العربي) وإن أخفى مصدره الذي نقل عنه فيما يتعلق بتاريخ الصبية.

والمصدران المذكوران نقلا عن التحفة النبهانية: "أن الصبية كانت آهلة بالسكان قديماً، وكانت عامرة بالأبنية والأسواق، كما تدل عليها خرائبها، واسمها مشتق من الصابئة، وأنها كانت واحدة من مدنهم التي بنيت بعد خراب (بابل)، وبقيت آهلة بالسكان والحضارة حتى زمن الأمويين".

وراودني شك فيما قاله صاحب التحفة النبهانية؛ هل كان النبهاني مصيباً أم أنه مؤرخ شطح به الخيال؟ هل كانت ثمة مدينة قائمة على هذه البقعة من الأرض؟ ثم إلى أي مصدر استند صاحب التحفة؟ هل من دليل يؤكد دعواه ويدعم مزاعمه؟

ولكن الأستاذ راشد الفرحان أضاف شيئاً جديداً عن موضع آخر ذكره وهو "الحجيجة"، والحجيجة مكان غير بعيد من الصبية؛ بل إن قصر الغانم يقع فيه، وقال الفرحان: "يُقال إن الحجيجة صفية بنت ثعلبة الشيباني كانت تسكن هذه الأرض، فسُميت باسمها، ومن قولها من قصيدة طويلة:

أنا الحجيجة من قوى ذوي شرف

أولى الحفاظ وأهل العز والكرم

اذن، عودة إلى الكتب والعود إليها أحمد.

فقرأت كتاب الأستاذ عبدالعزيز حسين (محاضرات عن المجتمع العربي في الكويت)، فماذا قال؟ ينقل الأستاذ عبدالعزيز حسين عن كتاب "لمع الشهاب في سيرة محمد بن عبدالوهاب" قولاً يقول فيه صاحب اللمع عن الصبية وهو: "يقع عن الجهرة شمالاً شرقاً مائلاً إلى البحر بلدة كانت في السالف عماراً، قد بقيت آثارها إلى اليوم، تسمى (الصبية) نسبة إلى الصابئين، قيل إنها من بقايا بلادهم التي عمرت بعد خراب (بابل)". ويتحدث صاحب لمع الشهاب عن الجهرة، فيقول: "كانت الجهرة في عصر الجاهلية وقبل مبعثه صلى الله عليه وسلم بسنين تبلغ مئة في غاية العمران، وهذه آثارها تدل على عظمتها اليوم، فإن فيها خرابات كثيرة من البنيان... إلخ).

إذن، هاتان مدينتان كانتا معروفتين غير مجهولتين، فما بال المصادر الأولى لم تشر إليهما ولم تعطنا عنهما ولو قليلاً؟

وعدت إلى كتب التاريخ أستنطقها وأستفهم منها، فوجدت ذكرا لمدينة أطلق عليها "السي لاند"، فتساءلت: هل هي الصبية أم أنها غير ذلك؟

وقرأت كتاب هـ. ر. ب. ديكسون (الكويت وجاراتها)، فرأيته يشير إلى مدينة العقير في المملكة العربية السعودية، ويقول إنها مدينة جرا.... ثم لا يضيف شيئاً، غير أن الكلمة لفتت نظري، فأدرجتها ضمن أوراقي.

عدت أدراجي أبحث في خلايا الكلمات عن موضع أضع عليه قدمي، وتوجهت إلى كتاب الأستاذ جواد على (تاريخ العرب قبل الإسلام) في أجزائه الثمانية، ففهارس الكتاب لا ترشد، وكان عليَّ أن أقرأه سطراً سطراً.

الرجل العلامة

وقبل نهاية الجزء الثاني عثرت على ضالتي، فثنيت ساقي وعقلت قدمي، أقرأ بتأمل وتأنٍ ما كتبه هذا الرجل العلامة عن مدينة جرها – أو جرا، لقد تحدث عنها المؤرخون اليونانيون، فقالوا عنها كما جاء في كتاب د. جواد علي: "مدينة تقع على ساحل عميق أسسها مهاجرون كلدانيون من أهل بابل، في أرض سبخة، يتاجر أهلها بالطيب والتمر والبخور، تحملها قوافلهم التي تسلك الطريق البرية. إنها ملتقى طرق تلتقي فيها القوافل من العربية الجنوبية والواردة من الحجاز والشام والعراق، كما أنها كانت سوقاً من أسواق التجارة البحرية تستقبل تجارة إفريقيا والهند والعربية الجنوبية، وتعيد تصديرها إلى مختلف الأسواق إلى موانئ المتوسط ومصر وإلى العراق ومنه إلى الشام، وقد ترسل بالسفن إلى سلوقية أو بابل".

إذن، هي مدينة عربية تقع على ساحل خليج عميق بلغت من الغنى والترف حتى إن سقوف بيوتها محمَّلة بالأحجار الكريمة وبالذهب.

واختلفوا في تحديد موضعها، فيقول الأستاذ جواد علي: رأي (سبرنكر) أنها العقير، ويظن قلبي أنها كذلك. وهناك طائفة أخرى من الباحثين ترى أنها القطيف، وظن آخرون أنها (سلوى)، الواقعة على ساحل البحر في قطر.

وقَلَّبْتُ كلمة "جرها" فوجدتها "جهرا"، والقلب والإبدال في العربية جائز وشائع ذائع. إذن، لم لا تكون الجهرا؟ فالاسمان متجانسان، لم تكن "القطيف" أو "سلوى" أو "العقير"، أليست "الجهرا" أحق؟

وأعجبني قول الأستاذ جواد علي: "إنها تخمينات لا تفيد يقينا، ولن يأتي الخبر اليقين إلا عن طريق الحفر والتنقيب".

صورة ضوئية للبيان الصحافي للأديب الزيد

إذن، فالمدينة أسسها مهاجرون، وليس مهماً أن يكونوا كلدانيين أو صابئة، لكن من الأهمية بمكان أن تتلاقى وتتعانق العبارتان في المصدرين في كتاب تاريخ العرب قبل الإسلام لجواد علي، وفي كتابيّ التحفة النبهانية ولمع الشهاب.

والصبية موقع مثير، لهوائه العليل وموقعه الاستراتيجي الضخم، إنها على رأس الخليج العربي، وعلى مفترق الطرق التجارية القديمة.

يقول الشيخ يوسف بن عيسى: إن آل صباح ومن معهم هاجروا إلى الصبية، لكن: لو ترك القطا ليلا لناما لقد لاحقتهم قبيلة الظفير، فرحلوا إلى موقع الكويت الحالي مرغمين، بحثاً عن الأمن رغم شح المياه. إن الصبية مهوى أفئدة المهاجرين دائماً كانت.

ورحلتُ إلى الصبية أتجوَّل فيها كواقع حي، وحين وقفت عند رأس الصبية على جون الكويت راعني رؤية جزيرتي "مسكان" و"فيلكا"، أنهما قريبتان من اليابسة. لم لا تكونان قد انفصلتا عن الأرض الأم فشكلتا موقعين مستقلين في وسط البحر؟

لقد تبيَّن لي أن رأس الصبية المتصل بجون الكويت كان مأهولاً بالسكان إلى عهد قريب. لقد شاهدت موقع مسجد قد تهدم منذ قريب، وهجر الأكواخ أصحابها، وهذه حظور الأسماك، وهذه تلال من الرمال؛ إنها تلال رملية ليست بمرتفعات حجرية، لذا فهي ممسوحة تغطي الأعشاب سطحها، ولو كانت حجرية كالتلال المجاورة لأكلت الأنواء أطرافها.

لربما كانت هذه التلال مدنا غطتها الرمال ودفنتها، لست أدري، ليس هذا شأني، إنه مجرَّد استدلال نظري قد يقود إلى الحقيقة يوما ما.

وعُدت أتصفَّح وجوه من أعرف ومن لا أعرف من الناس أسألهم إن كانوا عن أي أثر مادي يعلمون. لعلي أجد أثراً يرشدني إلى أن هذه المواقع كانت بقايا أقوام ذوي حضارة سادت ثم بادت. ِلمَ لا نكون خلفا طيبا يهدي إلى الطيب من القول والعمل؟

وما زلتُ أبحث وأسأل، حتى حرك شجوني قول قوم إنهم ربما وجدوا جرارا مطمورة في التراب أو أساور، فأهملوها، جهلاً منهم بقيمتها وبخطورة أهميتها. وفي يوم الأربعاء الموافق 26 مارس 1980 أهداني غلام يافع من أهل البادية جرة وجدها مطمورة صدفة في التراب وهو لا يعرف معناها ولا قيمتها (بوركت يا بني، بوركت يا محمد).

وجئت إلى الرابطة في مساء اليوم نفسه، وكان الإخوة مجتمعين، لقد حضر معظمهم لسماع محاضرة تلقى في الرابطة، وكان بعض الصحافيين موجوداً.

وكان الإخوة في الرابطة يعلمون ما كنت أبحث عنه من معلومات، وما كنتُ أجمعُه وأدوِّنه من كلمات عن الصبية، التي كانت تحمل في يوم من الأيام اسم الجهرا، ثم انتقل منها هذا الاسم إلى موضع قريب منها.

وانتقال الأسماء من موضع إلى موضع أمر شائع، فالتبادل في الأسماء وانتقال الأسماء أمر معروف لا عجب فيه.

أيها الإخوة، لست رجل آثار، لكني باحث يشقى من أجل الكلمة ويسعد، لقد انتهت مهمتي حين استكملت البحث النظري ودعمته، فضلاً من الله بهذه الجرة التي قد تدل على شيء ينفع، وليس في البحث والتنقيب بعد هذا من بأس. وكما قيل: أعط القوس باريها.

وقد تَسلَّمتْ وزارة الإعلام الموقع والجرة بتاريخ ١٩٨٠/٣/٢٩، في رابطة الأدباء.

سجال ومقارعة الحجة بالحجة

أخيرا، إن تكذيب الزيد فيما ذهب إليه وعدم إعطائه حق الرد على مناوئيه جعله يشعر بالغبن وخيبة الأمل والقهر، إذ لم يكن فاجراً في خصومته، بل كان يأوي إلى السجال ومقارعة الحجة بالحجة، وربما اليوم وبعدما أطلعنا على أوراقه التي حجبها عنا في حياته، أجزم بأنه استخرج مادة الكويت من كتاب دليل الخليج للوريمر (J. G. Lorimer)، ليثبت صدق ادعائه، ويكشف المصدر الذي نقل عنه مؤرخ الكويت الأول ولا غرو!

وإحقاقاً للحق، ودفعاً للباطل، وإنصافاً للرجل، أرى أن وزارة الإعلام، ممثلة بمعالي وزير الإعلام، والمجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، بات من الواجب عليهما الاعتراف بريادة اكتشاف الزيد لهذه المدينة الأثرية، وإعلانه رائدا لهذا الاكتشاف، إحقاقاً للحق وللتاريخ. وإلا فإن التاريخ لن يرحم مَن يتخاذل عن الحق ويدعيه لسواه، فالحق أحق أن يتبع، والذي جاء بالصدق وصدق به.