إخفاق التحصين، لماذا؟

ذكرت سابقاً أن التحصين، أي إسباغ صفة الحصانة من النقد والفحص والتقويم على شخصيات وأحداث تاريخية ومعتقدات وتقاليد وآراء، ثقافة عربية بامتياز، حتى طال التحصين تشريعات قانونية يراد حمايتها من الطعن لشبهة المخالفة الدستورية، الأمم القوية المزدهرة لا تلجأ إلى التحصين، لا دينياً ولا ثقافياً ولا تاريخياً ولا تشريعياً إلا للضرورة، إذ لا شيء يكون بمنأى عن النقد والمراجعة والتمحيص ومن ثم التغيير، لأنه قانون الحياة، فالتحصين سلاح عدم الواثق من ثقافته أو معتقده أو تاريخه أو فكره، والذين يخشون على ما يعتقدونه عزيزاً من الفكر الناقد، والواثق من سلامة معتقده ومواقفه لا يخشى نقداً أو تشكيكاً أو مراجعة وتغييرا.

Ad

ما المحتوى الفكري للتحصين؟

عملية التحصين من الغزو الثقافي أشبه بعملية تطعيم الأطفال باللقاحات الواقية من الأمراض والفيروسات الغازية، لكن ما يكون فاعلاً ويحقق هدفه في عالم الماديات قد لا يكون فاعلاً في عالم الأفكار، خصوصا في عصر الفضاءات المفتوحة.

تحصين الطلاب من الأفكار الخاطئة والمعتقدات الضالة، والطروحات المشككة، يتم عبر تلقينهم رأياً أحادياً، لا يقبل نقاشاً فكرياً أو حواراً مثمراً بين الرأي والرأي الآخر، وهذا لن يحقق هدفه، لأنه لن يوسع أفق الطالب الذهني أمام تعدد الخيارات الفكرية، ونسبية الحقائق المعرفية، وهذا يجعله أسير الرأي الواحد والفكر الواحد، وينتهي به المطاف إلى الجمود الفكري، ومن ثم التعصب الشديد الذي يولد التطرف الديني أو الفكري أو المذهبي أو حتى العنصري. لا أحد يملك الحقيقة الكاملة سواء في ميدان العلوم أو المعارف أو المعتقدات، واجتهادات البشر محكومة بالنسبية والاختلاف، والحقيقة الكاملة والمطلقة عند الله تعالى، ومعارف البشر مهما تقدمت فلن تخترق قيود الزمان والمكان "وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا"، ومن هنا، فإن شحن عقول الناشئة بما نظنه تحصيناً لهم من الأفكار التي نصفها بالضالة والهدامة، قد يكون نوعاً من احتكار المعرفة أو ادعاءً بتملك الحقيقة المطلقة أو زعماً بأننا وحدنا على الصواب وأن الآخرين على خطأ.

التحصين إذا لم يقم على قاعدة إنصاف من نكرههم، مصداقاً لقوله تعالى: "وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا"، وعلى قاعدة "قل الحق ولو على نفسك"، فلن ينجح في تحقيق هدفه، بل سيُخرج لنا شبابا ناقمين على الحياة ومجتمعاتنا ودولنا والعالم أجمع، وهذا ما حصل مع الشباب الذين التحقوا بتنظيمات القاعدة وداعش وطالبان وبوكوحرام والجماعات المتطرفة الأخرى.

لن يتحقق التحصين بالتعلق النرجسي بتاريخنا، وكراهية نقده، وعدم الاعتراف بأخطائنا تجاه الأقليات القومية والدينية والمذهبية التي كانت على مر تاريخنا تعاني التهميش والإقصاء، ولن ترتفع المناعة الذاتية لطلابنا بالنفخ المستمر، بأننا كنا سادة العالم وأساتذته، وأننا كنا خير أمة. سبعون عاماً من النفخ المستمر في الذات، ماذا كانت المحصلة النهائية؟

أدبيات الإسلاميين عامة، والإسلام السياسي خاصة، والمناهج الدينية والخطب والفتاوى، عبر 70 عاماً، وهي منشغلة في محاربة "العلمانية" و"العولمة" وتحصين الناشئة من "الشيوعية" و"التبشيرية" و"الاستشراق" و"المذاهب الهدامة"، أزعم أن هذه الجهود التحصينية، لو بذلت نصفها في حماية ناشئتنا من الفكر المتطرف، وتحصينهم من الوباء الإرهابي لكان أولى وأجدى، وكفانا انتفاخاً وخداعاً بأوهام مستحكمة، أننا أمة مستهدفة، فالعالم منشغل عنا بإبداعاته وكشوفاته واختراعاته وإنتاجه، وما نحن إلا أمة مستهلكة، وعالة على إنتاج الآخرين.

أخيراً: ينبغي تضمين المناهج، بالقبول بالاختلاف والتنوع بين البشر، باعتباره حكمة إلهية عليا، فهو القائل سبحانه وتعالى: "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ* إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ"، أي خلقهم مختلفين في طباعهم ونفوسهم وعقولهم وجيناتهم وبيئاتهم وألوانهم وألسنتهم وأديانهم، من أجل التنافس الخلاق، الذي يتم به التواصل بين البشر والتعاون والتعايش المعمرين للأرض.

* كاتب قطري