جهاد الغزو والفتوحات

قسم الفقهاء الجهاد نوعين: جهاد الدفع، وجهاد الطلب، أما الأول، فهو دفاع طبيعي مغروس في فطرة الإنسان، وشرعي مؤيد بنصوص القرآن المقيدة للقتال، بالدفاع عن النفس والمال والدين والوطن، قوله تعالى: "وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ"، تؤكده مواثيق حقوق الإنسان، وشرعة الأمم المتحدة.

Ad

ذكرنا، أن هذه الآية من المحكم الذي لا يقبل تأويلاً ولا تخصيصاً ولا نسخاً، لأنه تعالى أخبر بأنه "لا يحب المعتدين" والنسخ معناه، أنه "يحب المعتدين" وهذا محال.

أما الثاني "جهاد الطلب"، أي غزو ديار المسالمين بهدف الفتح والتمكين للدعوة، فلا نجد في القرآن أو في عمل الرسول، ما يؤيده، فالقرآن حرم العدوان تحريماً قاطعاً، لا استثناء فيه "ولو لنشر الدين"، لأن الاعتداء على المسالمين، أشد أنواع الظلم، والله تعالى لا يقبل الظلم أبداً، فكيف وقد أمرنا بالعدل حتى مع الأعداء "وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا"، ورسولنا، رحمة مهداة "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ"؟

والصحيح من سيرته، عليه الصلاة والسلام، أنه لم ينشئ عدواناً قط، لا في الجزيرة، ولا خارجها، وأنى للموصوف بالخلق العظيم أن يعتدي؟! على ناشئتنا أن توقن أن رسولنا ما قاتل إلا مضطرا، دفعاً لاعتداء واقع أو في سبيله لأن يقع.

أما حروبه مع قريش وحلفائها، فقد يغني عن تتبع أسبابها، معركة معركة، إنهم وقفوا منه، ومنذ البدء، موقف العداء الصريح، عُذب المستضعفون من أتباعه، وقوطعوا، وحوصروا، واضطروهم للهجرة، ولم يكفهم ذلك، بل تبعوهم إلى الحبشة، وتفننوا في إيذاء الرسول، وهو صابر يبتغي هدايتهم، وحين أجمعوا على قتله نجاه المولى إلى المدينة، فخرجوا في إثره يريدون أذيته، وعكفوا على تعذيب من تبقى من ضعفاء المسلمين بمكة، وهم يجأرون إلى الله بالشكوى "رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا"، وهذا الموقف وحده كاف في قيام حالة الحرب، ويغني، في العرف الدولي، عن تتبع أسباب معاركها واحدة واحدة.

أما اليهود، فقد كان عليه الصلاة والسلام، هو المبادر لاتفاقية سلام وتعاون معهم، أول قدومه، ولكن أنى لناقضي العهود، قاتلي الأنبياء، حفظ العهد؟! نقضوا الاتفاق سريعاً، وأعانوا المشركين في بدر، وقتلوا مسلماً، وهموا بقتل الرسول لما ذهب يطلب ديته، ومالؤوا المشركين في الخندق، وشكلوا طابورا خامساً، وشوكة في ظهر المسلمين.

أما الفرس فقد دُعي ملكهم إلى الإسلام، فكان جوابه تمزيق الكتاب، وأمر واليه في اليمن أن يأتيه بالرسول، لكن اليمن وعمان وبلاد البحرين دخلت الإسلام، مما دفع الفرس لشن الغارات عليها.

وأما الروم فلم يستجب قيصرهم، حين رأى استنكار حاشيته، وعن بطانة السوء هذه انتشرت في الدولة روح العداء ضد الإسلام وأهله، فقتل واليه في دمشق حامل كتاب الرسول، وجعل جوابه التهيؤ لغزو الجزيرة.

ففي كل هذه الحروب، كان الطرف الآخر، هو البادئ بالعدوان، وأكده القرآن "وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ"، فإذا كان القرآن حرم العدوان، والرسول رحمة للعالمين، فكيف أمكن إقناع شاب متحمس دينيا، لبس حزام ناسف وتفجير نفسه في مجلس عزاء، بأن عمله جهاد؟ هذا العمل الآثم لم نعهده عند الأمم الأخرى، فكيف بأمة وصفت بخير أمة؟

يسأل عنه، ذلك التوجه الذي غلب المفهوم الهجومي للجهاد على الدفاعي، في القرن الثاني الهجري، حين تمت شرعنة "جهاد الطلب"، تنظيراً فقهياً للغزو والفتوحات وضم ممالك الآخرين، واعتقاداً أنه وسيلة فاعلة لنشر الإسلام، وانعكاساً لطبيعة العلاقات الدولية القائمة على الغزو، واستجابة لمقتضيات الطبيعة الإمبراطورية للخلافة.

أخيراً: إذا كان للفقهاء في الماضي مبرراتهم، في تمثلهم روح عصرهم، فلا أَجِد للفقهاء المعاصرين ما يبرر عدم تفاعلهم واستيعابهم لروح ومقتضيات عصرهم، حرضوا شبابنا على الموت في أفغانستان والعراق وسورية، بدلاً من تحريضهم على اتلجهاد ضد التخلف والفساد والاستبداد، والتحرر من التبعية الاقتصادية والتقنية.

* كاتب قطري