كذب من قال إن الشعوب العربية لا ترحب بالفن الجاد العميق الذي يكشف خفايا النفس، ويجعلك تعيد النظر في أفكارك ومشاعرك. المسألة ببساطة هي غياب هذا النوع من الأعمال الفنية، التي ترهق صانعيها بدءاً من عمال الإضاءة وانتهاء بالمخرج، مرورا بالممثلين والمطربين والملحنين والمصورين... إلخ. الأسهل أن تقدم التافه الساذج الركيك بدعوى الاستجابة لذوق الجماهير؛ تلك الدعوى الزائفة التي تتجاهل أن الفن الحقيقي يصنع الذوق العام أكثر مما يستجيب له.

ينطبق هذا الكلام عن العمل الفني الجاد المعمق المتقن على النسخة العربية لمسرحية شكسبير الشهيرة "الملك لير"، التي يلعب البطولة فيها الفنان الكبير يحيى الفخراني وكوكبة من الفنانين المصريين المجيدين.

Ad

لير ملك إنكليزي قرر أن يستريح من أعباء الحكم بالتنازل عن سلطاته لبناته الثلاث، ووضع شرطا طريفا وهو أن تعبر كل واحدة من بناته عن حبها له حتى يمنحها نصيبها. تقوم البنتان الكبرى والوسطى بالمبالغة الشديدة في إظهار حبهما بصورة ترضي غرور الملك. ثم تأتي البنت الصغرى لتصدمه بكلامها البسيط الصادق الذي يعلن عن الحب، لكن دون مبالغة تصل إلى حدود النفاق مثلما فعلت أختاها. يغضب الأب ويقرر حرمان الابنة الصغرى من الميراث، ويتركها تذهب مع خاطبها الفرنسي بلا صداق أو هدايا.

يشترط الملك للتنازل عن ملكه أن يحتفظ بمائة رجل من حاشيته، يتنقل بهم بين قصري ابنتيه اللتين ورثتا ملكه. تمر الأيام وتستقر كل ابنة على عرشها، ثم يظهر الضجر والتبرم بالأب المسن الذي يمثل عبئا عليهما، فتبدأ كل واحدة في التخلي عن التزامها نحوه، ليكتشف تدريجيا أن ابنته الصغرى وتابعه المخلص اللذين رفضا أن ينافقاه كانا على صواب، وأنه وقع ضحية استسلامه المتعالي لكلمات الحب الزائفة. تنتهي المسرحية بموت الجميع بصورة مأساوية، مثل الكثير من أعمال شكسبير. لكن المهم هنا ليس القصة التي يمكن أن تكون بسيطة، بل المهم هو عناصر العمل المسرحي الصعبة التي اجتمعت لتخرج عرضا ممتعا وصعبا وجماهيريا في الوقت نفسه.

الحوار قوي ومكتوب بلغة فصحى ذات شحنات جمالية كبيرة، وقد أداه الممثلون بلا أخطاء تقريبا. الإضاءة والموسيقى تم استخدامهما بإبداع كبير، كما أنهما يتناسبان بشدة مع الأحداث. ديكورات المسرحية ذكرتني بالعروض التي شاهدتها في باريس ولندن من حيث الدقة في محاكاة الفترة التاريخية، والقدرة على تغيير المشاهد بسرعة وإتقان، وخروج بعض الديكورات عن حدود خشبة المسرح بما يعطي شعورا للمتفرجين بأنهم داخل الأحداث. أما عن الأداء التمثيلي فقد جاء عميقا من داخل الشخصية، ليشعر بعدها المتفرج بشبع فني كبير من الأداء الرفيع ليحيى الفخراني ورانيا فريد شوقي ونضال الشافعي وأيمن الشيوي وباقي الأبطال.

لقد شاهدت لير في القاهرة على مسرح خاص، أي إن التذاكر لم تكن رخيصة، ومع هذا كانت الصالة ممتلئة عن آخرها من كل الجنسيات العربية، ما يثبت أن تعطش الجمهور العربي للفن الحقيقي الجاد كبير، وأن حجة "الجمهور عاوز كده" ما هي إلا ستار يخفي وراءه تجار فن ولا يخفي فنانين.