إيطاليا بلد الأحداث غير المسبوقة! أسفرت آخر انتخابات وطنية في العام 2018 عن أول حكومة شعبوية في قلب أوروبا، فقد مهّدت تلك النتيجة لنشوء أول حكومة ائتلاف أوروبية تجمع بين حزب نافذ وحزب شعبوي، فقد أعلن هذان العدوّان السياسيان اللدودان أنهما اتفقا على تشكيل تحالف له هدف واحد: منع وصول ماتيو سالفيني إلى السلطة! سالفيني هو وزير الداخلية اليميني الشعبوي الذي أسقط الحكومة على أمل تنظيم انتخابات مبكرة، حيث يفوز "حزب الرابطة" الذي يرأسه بالمركز الأول على الأرجح.

نتيجةً لذلك، انتقلت إيطاليا بكل وضوح من حكومة ضعيفة وغير متماسكة إلى أخرى! لكن هل يضمن هذا التحالف الحكومي الجديد، بين "حركة خمس نجوم" المعادية للسلطة والحزب الديمقراطي اليساري الوسطي الحاكم، ترسيخ استقرار إيطاليا أم إضعافه؟ وهل يكبح ذلك التحالف تنامي نفوذ اليمين المتطرف أم يستنزف الشرعية السياسية من الحليفَين في حكومة الائتلاف الجديدة، مما يعطي سالفيني الفرصة التي يريدها للعودة إلى الساحة بكل قوة؟

Ad

شارك سالفيني في الحكم طوال 14 شهراً، كشريك صغير لـ"حركة خمس نجوم"، ضمن حكومة تمثّل ناخبين محتجّين غاضبين، قبل أن يغيّر مساره. اتفق الحزبان على تعيين أستاذ القانون جوزيبي كونتي رئيساً للحكومة. على مر 14 شهراً، كان كونتي أشبه بدمية في يد الآخرين، لكنه استقال في الأسبوع الماضي، واتّهم سالفيني بتعريض البلد للخطر. عاد كونتي إلى السلطة الآن، ومن المتوقع أن يُكلّفه الرئيس سيرجيو ماتاريلا بتشكيل حكومة مع شركاء جدد في التحالف، ويجب أن يصوّت البرلمان لمنحها الثقة.

لكن بدأ سالفيني يطلق مواقف عدائية منذ الآن، علماً أنه وزير الداخلية راهناً ومن المنتظر أن يصبح زعيم المعارضة. فأعلن أن هذه الحكومة الجديدة تشكّلت على الأرجح في "بياريتز"، خلال قمة "مجموعة السبع"، حيث يمثّل كونتي إيطاليا. من وجهة نظر سالفيني، كونتي رئيس حكومة "مصنوع في باريس وبرلين وبروكسل". إنه جزء كلاسيكي من خطاباته! حصد "حزب الرابطة" اليميني الذي ينتمي إليه ويحتل المرتبة الأولى في الاستطلاعات 34% من الأصوات في انتخابات البرلمان الأوروبي بفضل خطابه المعادي لبروكسل، مقر الاتحاد الأوروبي، باعتباره قامع السيادة الإيطالية. يعتبر سالفيني نفسه مؤيداً لمحور ترامب، لكنه تغاضى عن دعم الرئيس الأميركي لكونتي في إحدى تغريداته حديثاً.

تكثر المفارقات المطروحة في الوضع الراهن. في المقام الأول، يبدو أن إيطاليا نجحت في تشكيل معارضة للسلطة من دون أن تشمل سلطة فاعلة، وفي محاولة لصدّ تنامي نفوذ وزير داخلية يميل إلى تقليد موسوليني ويقود حزباً قوياً جداً محلياً وإقليمياً، تحالف "الحزب الديمقراطي" مع "حركة خمس نجوم"، مع أنه لم يتوقف عن انتقادها في السنوات الأخيرة (لسبب وجيه!)، باعتبارها تجمّعاً مبهماً وغير متماسك من داعمي نظرية المؤامرة ومعارضي اللقاحات الإلزامية، علماً أن قراراتها الداخلية ترتكز على تصويت عبر الإنترنت في منصة إلكترونية تملكها شركة خاصة.

يدخل "الحزب الديمقراطي" إلى هذه الحكومة الآن كأصغر عضو في الائتلاف. من سيتولى القيادة إذاً؟ هل ينجح هذا الحزب في تعديل مواقف "حركة خمس نجوم"، أم أن هذه الحركة ستشوّه سمعة "الحزب الديمقراطي"؟ في الحكومة الشعبوية الراهنة، تسلم سالفيني دفة القيادة منذ البداية واقترب من أعلى مراتب السلطة في خضم مواجهته لـ"حركة خمس نجوم"، واستفاد من منصبه في الحكومة لإطلاق حملة انتخابية متواصلة. هو رجل ذكي وبارع في التكتيك السياسي، أو كان كذلك على الأقل قبل أن يوافق على الدعوة إلى إجراء انتخابات ويخسر. يبدو "الحزب الديمقراطي" من جهته منقسماً جداً، يرأسه نيكولا زينغاريتي، لكن عددا من نوابه لا يزالون موالين لسلفه، رئيس الوزراء السابق ماتيو رينزي الذي يكتفي بتوجيه انتقادات عدائية من دون اتخاذ خطوات ملموسة.

أعاد سالفيني التأكيد على دعوته إلى إجراء انتخابات جديدة، واعتبر التحالف الحكومي الجديد بقيادة كونتي مجرّد "نسخة مكررة من مونتي"، في إشارةٍ إلى عدوه المفضّل، رئيس الوزراء التكنوقراطي ماريو مونتي الذي حكم البلد من 2011 إلى 2013 وكُلّف بإعادة الاستقرار إلى بلده خلال أزمة الديون وقررت إيطاليا في عهده رفع سن التقاعد. بدا مونتي هدفاً مناسباً لسالفيني، بعدما أصبح رمزاً لتدابير التقشف التي أوصلت الإيطاليين إلى أسوأ الأحوال، حتى لو نجحت في إعادة الاستقرار إلى الوضع المالي.

اكتسب مونتي اليوم لقب "سيناتور مدى الحياة"، وهو أستاذ اقتصاد لبق يتّسم بذكاء حاد وهادئ. على التلفزيون الإيطالي، سُئِل حديثاً عن احتمال أن يمنح الثقة للحكومة، فارتبك للحظة. يختلف الوضع برأيه إذا حاولت الحكومة التصدي للبربرية الإيطالية الشائبة، لكنّ "حركة خمس نجوم"، التي تُقابِل قوى الدولة العميقة الغامضة بنظريات مؤامرة معادية للسلطة، معروفة بـ"تقصيرها الديمقراطي" البارز. قال مونتي إنه عبّر عن مخاوفه بهذا الشأن أمام كونتي، لكن هل سيمنح مونتي الثقة للحكومة المرتقبة؟ لم يُجِب عن هذا السؤال.

ربما أصبحت أيام هذه الحكومة الجديدة معدودة منذ الآن... سيكون سالفيني مستعداً لاغتنام الفرصة!

* رايتشل دوناديو

* «أتلانتيك»