في ضيافة الرحمن

Ad

لم أكن أو أحلم، وقد بلغت من العمر عتيا وأوشكت على لقاء رب كريم، أنني سوف أكون في ضيافته في بيته الحرام، عندما خاطبني هاتفياً الأخ الفاضل صلاح المضف أكثر الله من أمثاله، في موضوع يأخذ رأيي فيه، أن الأمر يقتضي قطع إجازتي، لأعود إلى الكويت، ولم يبق على عيد الأضحى إلا أيام معدودة، لم أكن أحلم أنني سأكون في ضيافة الرحمن في بيته الحرام، مؤديا فريضة الحج، لألتمس من المولى عز وجل، قبل أن ألقاه، المغفرة من ذنوب كثيرة، يعلم الله الكثير منها الذي لا أعلمه، فهو «الحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم» يعلم ما بين أيدينا وما خلفنا ولا نحيط بشيء من علمه إلا بما شاء، وقد زادت ذنوبي وكثرت، بعد أن استطعت إلى الحج سبيلا، من ربع قرن.

لم أكن أحلم أو أتخيل أنني سوف أقف بعد أيام لا تزيد على عدد أصابع اليد الواحدة، على جبل عرفات مع الملايين من مختلف الثقافات والجنسيات والأطياف والألوان، ومختلف اللغات واللهجات، من مشارق الأرض ومغاربها، على هذا الجبل، وقد سمت العقول عن كل مباهج الحياة وزخرفها، وصفت النفوس إلا من عبادته، والتقت القلوب وارتجفت الأبدان والتهبت الحناجر، في التهليل والتكبير لله الواحد الصمد، له ما في السموات والأرض، وهو على كل شيء قدير.

حتى إذا توجهت لأداء باقي المناسك، تجد الملايين من المسلمين يتوجهون في جنح الظلام إلى المزدلفة لجمع الحصاة، ومنها على منى ثم إلى عرفات، يسيرون الهوينى يقطعون هذه الأميال الطويلة دون ملل أو ضجر، بل في فرحة غامرة، لم يفرحوا مثلها قط، يبتغون ثوابا مضاعفا عند المولى عز وجل، رب العرش العظيم.

في ضيافة الرحمن تنسى كل شيء

تنسى الأوجاع والأمراض والعلل والأسقام، تحملك الأرض المقدسة بجاذبيتها المغناطيسية التي تختلف فيها عن كل بقاع الأرض، في الحرم المكي، في الطواف حول الكعبة، أو السعي بين الصفا والمروة، قبل أن تحملك قدماك، وتأبى السماء إلا أن تشارك هذه الجماهير فرحتها، فتهطل الأمطار، ويصدع البرق والرعد مهللا مع هذه الملايين مكبرا مع تلك الجماهير.

وتفاجأت بمجموعة من رجال الشرطة يقفون على سور لتوديع حجاج بيت الله الحرام وهم يغادرون منى، كما سبق أن فوجئت بهم في الحرم، يرشونك بالمياه للتخفيف من شدة الحر والزحام، لقد أصبح الجميع في خدمة الحرمين، فالماء لا يسيل إلا من علٍ.

أمير مكة يغسل قاطع طرق

وفي هذا الخضم من الروحانيات في طواف القدوم والسعي، تذكرت قصة من التراث الإسلامي أن قاطع طريق كان يسطو على القوافل وينهب الأموال التي تحملها الجمال، ويقتل أصحابها ويغتصب النساء، وعندما مات رفض أهل مكة جميعا تغسيله أو الصلاة عليه، فقام أمير مكة بنفسه وغسله والصلاة عليه، فأثار ذلك دهشة أهل مكة وتساؤلهم، كيف يحظى هذا القاتل قاطع الطريق، بتكريم لم يسبق إليه أحد من أخيار مكة ووجهائها وأمرائها؟ فتأتي الإجابة من كبيرهم وإمامهم، لعل قاطع الطريق، قد رأى في أثناء سطوه على القوافل كلبا ضالا ظمآن فقدم له شربة ماء.

هي قصة من التراث الإسلامي، قرأتها من سنوات طويلة، وهي ترسخ في أذهاننا، إن الله واسع المغفرة، يضاعف الحسنات ولا يضاعف السيئات، فالحسنة بعشرة أمثالها، فكانت الحسنة التي ارتكبها قاطع الطريق لكلب ضال هي التي كرم بسببها في وفاته، ولكن الله شديد العقاب، فسوف يلقى قاطع الطريق جزاءه في جهنم وبئس المصير.

وتذكرت هذه القصة وأمير حملتنا منصور الخليفي يصر على دفعي بالكرسي المتحرك في الطواف كله والسعي كله، بعد أن أعيانا البحث عن واحد من هؤلاء الذين يحترفون هذه المهنة، ولما شاهدنا أحدهم في الشوط الرابع رفض إلا أن يستمر في دفعي إلى نهاية الطواف، رغم تحذيري له، بأننا قد لا نجد غيره أثناء السعي، فأصر على أن يدفعني طوافا وسعيا، فشكراً للأخ منصور وشكراً للأخ فواز الخزيم مدير عام الحملة، فقد بذلا كل ما في وسعهما من جهد وطاقة ومال، لرعاية حجاج الحملة وحسن معاملتهم، وشكراً لكل أفراد الحملة الذين كانوا يتسابقون في تقديم العون لي، وكنت قد رويت لمنصور قصة التراث الإسلامي السابقة فضحك عندما شبهته بأمير مكة في مكرمته لي، واستدركت فقلت له، أنت أمير الحملة، وأنا لست بقاطع طريق.

ولا يفوتني أن أتوجه بالشكر إلى القامات الرفيعة التي أتاحت لي بضع ساعات الحصول على فيزا الحج وهم سعادة سفير المملكة العربية السعودية في الكويت سمو الأمير سلطان بن سعد آل سعود وسعادة السفير عبدالعزيز الشارخ مدير المعهد الدبلوماسي بالكويت، وسعادة القنصل السعودي محمد السويد، وسعادة العضو المنتدب بالهيئة العامة للاستثمار فاروق بستكي.

وللحديث بقية إن كان في العمر بقية.