خلال أي حرب تجارية، يصاب الناس بنيران صديقة، كما يحصل في الحروب الحقيقية تماماً. لنفكر بالإصابات المترتبة عن حرب دونالد ترامب التجارية التي «يسهل الفوز بها» بحسب وعوده، ولنبدأ بالشركة التي تحمل آلاتها الخضراء اسم الحداد الذي اخترع محراثاً ذاتي الحركة لحراثة التربة السطحية السوداء الثقيلة في الغرب الأوسط، في عام 1830، في «غراند ديتور»، إلينوي.

هل تعبت شركة «جون دير» من الفوز، بما يتماشى مع وعد ترامب بأن يتعب جميع الأميركيين من الفوز قريباً؟ ليس تماماً! كتبت صحيفة «وول ستريت جورنال» عن تراجع أعداد آلات الزراعة التي يشتريها المزارعون الأميركيون، لذا انخفضت أرباح شركة «دير» في هذا القطاع بنسبة 24 في المئة خلال سنة. يتعلق السبب جزئياً بتدهور مداخيل المزارعين نتيجة الخلافات التجارية التي أطلقها ترامب مع الصين، ما دفع بكين إلى إلغاء شراء نحو 500 ألف طن متري من فول الصويا. لكن الأنباء الحسنة بنظر شركة «جون دير» قد تكون سلبية للمزارعين الأميركيين: ارتفعت مبيعات المعدات إلى البرازيل والأرجنتين. ربما حصل ذلك لأن الصين زادت مشترياتها من المزارعين في هذين البلدين، علماً أنهم منافسون للمزارعين الأميركيين.

Ad

حتى التحركات الحكومية المنطقية راهناً تؤذي بعض المزارعين على ما يبدو، وبات عدد كبير منهم يتكل على تعليمات الحكومة المضللة بشأن الإيثانول في البنزين، وذكرت الصحيفة أن 31 مصفاة استفادت من إعفاءات «وكالة حماية البيئة» الأميركية حول كميات الإيثانول المسموح بها. وفق «جمعية مزارعي الذرة في ولاية أيوا»، قد تسمح تلك الإعفاءات بتصريف «نحو مليار مكيال ذرة». لن نناقش هنا ما إذا كان الإيثانول ليحتل هذه الأهمية كلها في واشنطن لو لم تكن أيوا تستعد للمؤتمرات الحزبية التمهيدية للانتخابات الرئاسية.

تلوم «هوب ديبوت»، أكبر شركة بيع بالتجزئة للمعدات المنزلية في العالم (لديها أكثر من ألفَي متجر في أميركا الشمالية)، الحرب التجارية جزئياً على تراجع توقعاتها بالنمو. وفق تصنيفات «جي بي مورغان»، تُكلف الرسوم الجمركية، التي تسميها «فايننشال تايمز» «ضرائب الاستيراد»، الأسرة الأميركية «نحو ألف دولار سنوياً». في هذه الحالة، يمكن اعتبار هذه الزيادة الضريبية التي فرضها ترامب وحده أهم من خفض الضرائب الذي أقره الكونغرس بنظر المواطن الأميركي العادي.

ذكرت «فايننشال تايمز» أن «مئات الشركات والجمعيات التجارية الأميركية أعلنت في بيان مشترك في شهر يونيو أن الرسوم المقترحة ستؤدي إلى خسارة مليوني وظيفة وإضعاف الإنتاج الاقتصادي الأميركي بنسبة 1 في المئة». يمكن تفسير تلك الخسائر وذلك التراجع من وجهة نظر آلن غوليمبك، أحد المسؤولين في «مجموعة كتاب البيت الأبيض»، بميل الشركات إلى استعمال أكثر من 60 في المئة من الواردات الأميركية في منتجاتها وعمليات الإنتاج». بالتالي، ترتفع كلفة السلع الأميركية بسبب رسوم ترامب، مما يؤدي إلى إضعاف نشاط المستهلكين الأميركيين. كما أن تفاقم العجز التجاري يبدو مجرد مصدر إزعاج لترامب الذي يعتبره مؤشراً على استغلال الأجانب للأميركيين من خلال بيعهم السلع التي يريدونها.

أدت الشكوك السائدة في الاقتصاد العالمي، نتيجة الحرب التجارية بين أكبر اقتصادين وطنيين، إلى تباطؤ عالمي ومخاوف من حصول ركود اقتصادي وشيك. بدأ رابع أكبر اقتصاد في العالم، أي ألمانيا التي تتكل بشكلٍ أساسي على التصدير، يتقلص منذ الآن. ذكرت مجلة «ذي إيكونوميست» أن «أسعار الفائدة اتخذت منحى سلبياً، فانتقلت من ودائع ليوم واحد إلى سندات مدتها 30 سنة. لا شك أن المستثمرين الذين يشترون ويحتفظون بسندات مستحقة الدفع سيخسرون مبالغ نقدية كبيرة».

لا تشير هذه المعطيات إلى سلامة الوضع الاقتصادي، لكنها تَسُر الرئيس على الأرجح لأنه يتبنى نظرية الاقتصاد الكلي التي تبدو وافية ظاهرياً لكنها تفتقر إلى جوهر صلب وتعتبر تراجع أسعار الفائدة إيجابياً. لا يكف ترامب عن مضايقة مجلس الاحتياطي الفدرالي لتخفيض الفائدة، علماً أنه قد يتخذ هذه الخطوة مجدداً إذا لاحظ أن الركود أصبح وشيكاً. سيكون الركود إذاً أشبه بفوز سلبي نتيجة حربه التجارية.

بين مايو 1937 ويونيو 1938، نشأ «ركود متزامن مع الكساد»، وعكس هذا الوضع ثالث أسوأ انكماش اقتصادي تواجهه الولايات المتحدة خلال القرن العشرين.

يختلف الأشخاص الأذكياء والمطلعون حول أسباب ذلك الاضطراب وأحداث اقتصادية كثيرة أخرى. لكن تتعلق إحدى النظريات بظاهرة «إضراب الرساميل». شعر المستثمرون بالقلق والاستياء بسبب التدابير التنظيمية الشائبة التي فرضتها برامج «الاتفاق الجديد»، لذا امتنعوا عن أي نشاط اقتصادي. يطلق هذا الفصل من التاريخ تحذيراً لمؤيدي السياسة الحمائية الذين يغفلون عن حقيقة الوضع على ما يبدو.

هم يتلاعبون بسلاسل الإمدادات العالمية، وكأن الاقتصاد العالمي لعبة تركيب يمكن تفكيكها وإعادة تجميعها من دون حسيب أو رقيب. يشبه الوضع منحوتات ألكسندر كالدر المتحركة، بمعنى أن تحريك القطع في موقع معين يؤدي إلى اهتزازها في مواقع أخرى وهكذا دواليك. بالتالي، قد تؤدي الرسوم الجمركية المفروضة على هواتف «آي فون» التي تنتجها «آبل» (مقرها «كوبيرتينو»، كاليفورنيا) ويتم تجميعها في الصين، إلى تسهيل بيع هواتف «غالاكسي» من إنتاج «سامسونغ» (مقرها بالقرب من سيول، كوريا الجنوبية) في الولايات المتحدة. عملياً، هذا هو معنى شعار «أميركا أولاً»!