شيء واحد يتفق عليه دعاة البريكست وأنصار البقاء في الاتحاد الأوروبي، وهو أن تأجيل موعد البريكست إنما يعني بشكل عملي رفضه، وتستمر الحكومة البريطانية برئاسة بوريس جونسون في الادعاء بأن المملكة المتحدة ستخرج من الاتحاد الأوروبي بحلول الحادي والثلاثين من شهر أكتوبر، سواء تم الاتفاق حول ذلك أو لم يتم.

في غضون ذلك يبدو أن رئاسة الحكومة في 10 داوننغ ستريت تشعر بحساسية شديدة إزاء إمكانية حدوث مناورات برلمانية تهدف إلى إرغام الهيئة التنفيذية– من خلال إصدار تشريع– على السعي إلى تمديد آخر للمادة 50 من أجل الحصول على تأجيل لقرار البريكست من جديد. وفي حقيقة الأمر يتعين على بوريس جونسون التزام الهدوء بالنسبة الى هذا الاحتمال لأن الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون قد يسارع الى إنقاذه من هذا المأزق.

Ad

ويقول خبراء الطاقة في الغرب إن أي مدة قد يشتمل عليها تمديد موعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي عن طريق تشريع برلماني محتمل ربما يتحقق عبر تمديد المادة 50 سوف يتطلب الحصول على اجماع من جانب مجلس وزراء الاتحاد الأوروبي بدعم هذا المقترح الذي يعتبر مثيراً للجدل الى حد كبير، ومن المعروف على نطاق واسع مدى تردد الرئيس ماكرون في منح هذا التمديد الأخير، لكنه قد يقبل به لمساعدة جونسون ضمن معطيات محددة ولكن هل في مصلحة ماكرون وفرنسا القيام بهذه الخطوة؟

والجواب عن هذا السؤال هو نعم إذا استطاع ماكرون انتزاع بعض الالتزامات من رئيس الوزراء البريطاني.

وفي ما يلي بعض الميادين التي تهم الرئيس الفرنسي في الآجال القصيرة والطويلة:

أولاً: سوف يسعى الرئيس ماكرون الى الحصول على التزام يقضي باستمرار العلاقات الدبلوماسية والعسكرية والأمنية الوثيقة بين فرنسا والمملكة المتحدة، وبحسب صورة الوضع الراهن تعتبر فرنسا أكثر عزلة على الصعيد الدولي وبشكل يفوق ما كانت عليه منذ عدة سنوات، كما أن علاقة باريس مع الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي ضعيفة بصورة عامة، ومع ألمانيا متوترة ومع الولايات المتحدة في عهد الرئيس دونالد ترامب متضاربة ومتردية.

وفي لحظات توترات مماثلة شهدها القرن الماضي تطلعت فرنسا الى بريطانيا من أجل الحصول على شراكة ودعم، على الرغم من أن محاولاتها لم تكن دائماً ناجحة تماماً، وكان التحالف الفرنسي– البريطاني قوياً وثابتاً منذ ثمانينيات القرن العشرين في مجال السياسة الخارجية والدفاع والأمن على الرغم من أن ذلك لم يكتسب الصفة الرسمية عن طريق اتفاقيات على غرار اتفاقية سانت– مالو في عام 1998 أو اتفاقية لانكستر هاوس في عام 2010.

وتشعر الرئاسة والحكومة في باريس بقلق من أن بريطانيا قد أصبحت الآن عند مفترق طرق في مصالحها الاستراتيجية، وطوال قرن من الزمن على الأقل، كانت تلك المصالح متضاربة ومتباينة بين الالتزام القاري والأطلسي، وكان الفرنسيون يشعرون بحساسية ازاء تلك التحولات وبقدر يفوق معظم الشعوب الاخرى، ولم يغفر الجنرال الفرنسي شارل ديغول لرئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل جملته الشهيرة «في الاختيار بين القارة والبحر المفتوح أنا سأختار دائماً البحر المفتوح «. وسيحرص الرئيس ماكرون على ضمان عدم تغير نقطة التحول هذه في العلاقات الفرنسية – البريطانية.

المحاولات الأميركية

وقد لاحظت فرنسا محاولات الولايات المتحدة للتودد الى بريطانيا عن طريق وعود بتحقيق اتفاقات تجارية سريعة وخاصة من جانب مستشار الأمن القومي الأميركي جون بولتون والتي دفعت فرنسا الى اطلاق جرس الإنذار.

وتعلم باريس أن ادارة الرئيس دونالد ترامب تشترط بصورة دقيقة في كل مسألة أن تفضي الى اتفاق تجاري، وفي مقابل ذلك، يمكن أن تتجه بريطانيا نحو فرض سياستها الخارجية حول قضايا تبعد كثيراً عن الأزمة مع ايران كما فعلت إفريقيا.

وثانياً: في وسع الرئيس ماكرون استخدام حق النقض إزاء تمديد الاتحاد الأوروبي وذلك في مقابل مفاوضات سرية مع جونسون حول بعض التنازلات التجارية الثنائية الصغيرة التي يمكن تنفيذها في وقت لاحق، وذلك من أجل حماية فائض فرنسا التجاري مع المملكة المتحدة والذي يبلغ 9 مليارات جنيه إسترليني والمعرض للخطر على أي حال.

الخسائر الفرنسية

سوف تتضرر قطاعات الزراعة والنبيذ وصيد السمك في فرنسا بشدة في حال عدم التوصل الى اتفاق حول البريكست، ولكن الجانب الأكثر أهمية هو أن هذه القطاعات كانت بشكل تقليدي موضع احتجاج منذ فترة طويلة وفي وسع الرئيس ماكرون تجاوزها.

وبدلاً من الوقوف الى جانب محاولات دعاة البقاء في الاتحاد الأوروبي الرامية الى تمديد عملية البريكست قد يتمكن الرئيس الفرنسي من إظهار نفسه في صورة العامل لمصلحة أوروبا في الأجل الطويل، وذلك من خلال وضع نهاية سريعة لصرف انتباه الاتحاد الأوروبي عن قضية البريكست، والتركيز على الإصلاح وتعميق مؤسسات الاتحاد كما جاء في خطابه في السوربون في عام 2017 فيما يخفف سراً بعض التداعيات على فرنسا في حال خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي من دون اتفاق.

في غضون ذلك، قد يتعرض الاتحاد الأوروبي الى مضاعفات وتداعيات في الأجل الطويل نتيجة قيام علاقة تجارية أوثق بين بريطانيا والولايات المتحدة وبشكل يفوق حرمان الاتحاد الأوروبي من ميزة الوصول الى واحد من أوسع أسواق الاستيراد في العالم على الإطلاق.

وفي الوقت الراهن يتم تحديد المقاييس التنظيمية والفنية البريطانية وفقاً لقوانين الاتحاد الأوروبي، ولكن هذا يمكن أن يتغير إذا عمدت الولايات المتحدة– وهي في الأساس أكبر شريك تجاري لبريطانيا– إلى توسيع وتعميق علاقاتها التجارية مع المملكة المتحدة.

من جهة أخرى، توجد في الوقت الحالي منافسة عالمية بين مقاييس الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة مع حصول الدول الأخرى على حرية الاختيار بين أحد النظامين، وإذا قررت بريطانيا الخروج من فلك تنظيم الاتحاد الأوروبي فقد تشجع بذلك الدول الأخرى على القيام بمثل هذه الخطوة، وإضافة إلى تقويض المقياس الدولي للاتحاد الأوروبي في هذا الميدان فإن ذلك قد يؤثر في العلاقات التجارية مع بريطانيا.

روسيا وعزلة فرنسا

كان التوجه نحو روسيا إشارة على عزلة فرنسا في القارة الأوروبية منذ أكثر من قرن من الزمن، وقد استضاف الرئيس الفرنسي ماكرون الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بهدف اعادة موسكو الى مجموعة الـ 8 وإعادة إحياء الفكرة الفرنسية القديمة حول ربط روسيا بأوروبا من خلال شراكة اقتصادية أوروبية، ولكن لا يمكن توقع الكثير من هذا المسار في الأجل القصير. غير أن وصف الرئيس ترامب للاتحاد الأوروبي بـ»العدو» الجيوسياسي وخطر انزلاق بريطانيا نحو «البحر المفتوح» قد يوفر للرئيس ماكرون السبب من أجل إلقاء حبل النجاة الى بوريس جونسون.