في أحد المصايف الأوروبية قبل عامين، وفي أحد المقاهي الشهيرة في ذلك المصيف، عرّفني عليه صديق بأنه رجل أعمال وشخصية خليجية مهمة في بلده. صافحني، وعندما قدمني صديقي له بأنني صحافي كويتي انعقدت خيوط جبهة وجهه، وكأنه لم يرتح لي، أو ربما بسبب وظيفتي. استمرت العلاقة معه بالتحية من بعيد كلما التقينا، أو أن يسألني بتهكم عندما أجلس بجانبه على طاولة المقهى: "ها الأخ الصحفي شنو صاير بالعالم خبرنا؟".

في إحدى الليالي، دخل المقهى وجال في أرجائه فلم يجد طاولة خالية، فرحبت به وطلبت منه مشاركتي طاولتي، فجلس ثم بادرني بنفس السؤال عن أحوال العالم، فابتسمت ولم أجبه، فأخذ يسألني أسئلة شخصية: "هل تمتلك عقاراً هنا؟"، فأجبته بالنفي، فبادر هو يتحدث عن عدد العقارات التي يمتلكها في ذلك البلد الأوروبي ومواقعها، ويشتكي من الضرائب الكثيرة التي يدفعها هناك، ثم تنهد وقال: "الخليج كله فرص وخير... الله لا يغيّر علينا".

Ad

وأكمل: "من عرف أن يستغل الفرص في دولنا يتمتع بخيرها الآن. والدي، رحمة الله عليه، كان ذكياً، ففي نهاية عصر الغوص والسفر كنا شبه مفلسين، وكنا نبيع أصولنا واحداً تلو الآخر لنحافظ على مستوى معيشتنا، ولكن اسم عائلتنا كان ذا صيت واحترام في المجتمع. وعندما بدأ عصر النفط، وبدأت بعض تجمعات الشباب تتحدث عن توزيع الثروة وتتحدى السلطة؛ كان والدي يحضر معهم أو يدعوهم إلى ديوانه، فعلم أهل الحكم بذلك.

فبدأت السلطة تدعو والدي في مناسباتهم، ويسألونه عن أحوال تجارته، وبعدها عينوا أحد أقربائنا في منصب مهم في الدولة، وهنا بدأت تنحل مشاكلنا المالية، وبدأنا نعيد مجدنا التجاري، وأصبح والدي في صف الحكم الذي يوفر الاستقرار للبلد في وجه الفوضويين وجماعة القوميين العرب والشيوعيين وأهل الديمقراطية، وكل المجانين الذين ظهروا في بداية الاستقلال".

ردة فعلي كانت مختصرة، وقلت له: أين العدالة في ذلك؟... فانتفض غاضباً وقال: "الأخ الصحفي، لا تفلسف الأمور... أنت ما تشوف قناة ناشيونال جيوغرافيك؟"، فقلت له: ما علاقة ذلك بموضوعنا؟! فقال: "ما شفت الأسد اشلون يفترس الحيوان الأضعف ويأكله، وعندما يشبع تأتي لتأكل الضباع ثم الثعالب ثم في النهاية الحيوانات القمامة، كل حسب رتبته وقوته في الغابة؟!"، فعلّقت عليه: ولكن البشرية تخطت منذ أمد بعيد أسلوب حياة مملكة الحيوان والغابة. فضحك وقال: "نحن مازلنا نعيش مرحلة مملكة الحيوان، والأقوى من يحصل على النصيب الأكبر، وأحياناً الأذكى".

عند ذلك غيرتُ الموضوع، لأنه لا فائدة من مناقشة شخص يعتبر نفسه وشعبه حيوانات... وتأكدت بأننا في العالم العربي نعيش في عصر عدالة "ناشيونال جيوغرافيك"!