إن زيارة أي كاتب أو ناقد أو صحافي لأي قطر عربي، خلال فترة السبعينيات والثمانينيات، كانت مقترنة بمقابلات المبدعين الأبرز الذين لا خلاف على نتاجهم الإبداعي الكبير والمتجدد، وبالتالي كان هناك ما يمكن أن يُطلق عليه "الرمز الإبداعي"، سواء في القصة، أو الرواية، أو الشعر، أو المسرح، أو الفن التشكيلي، أو الأغنية، أو غير ذلك. وهذا الرمز كان يعبّر عن نفسه وقناعاته من جهة، وكان في الوقت نفسه يقدم منتجاً إبداعياً دالاً يُشار إليه، ويشكل بوصلة وميزاناً للنتاج الإبداعي في الجنس الذي يكتب فيه، لذا صار لذاكرة الإنسان العربي الأدبية رموزها في مختلف أجناس الكتابة الإبداعية، مما شكّل ذاكرة عربية يجتمع حولها المبدع، والمثقف، والصحافي، والإعلامي وجمهور القراءة. وصار كل قطر عربي يحضر من خلال أعمال رموزه المبدعة، وكانت تلك الأعمال في عمومها تتخذ من الواقع والهم الاجتماعي منطلقاً لمتونها السردية والشعرية والمسرحية، وكانت في مجملها، بدرجة أو بأخرى، تحمل إدانة للأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية القاسية والظالمة التي يعيشها الإنسان العربي، لذا تذهب في رؤاها الأبعد إلى مناقشة مصير الإنسان العربي، متمنية مناخات سياسية واجتماعية واقتصادية أكثر حرية وعدالة وسلاماً.

الفترة الواقعة بين 1967 حتى نهاية الثمانينيات أوجد كتّابها الرموز على امتداد أقطار الوطن العربي، وأهم ما يمثل حضور أولئك الرموز هو الإجماع من جمهور النقاد والقراء والدراسات الأكاديمية والترجمة على تميزهم، وإبداع أعمالهم وإخلاصهم لهموم بلدانهم وشعوبهم من جهة، وهمهم الإبداعي الإنساني من جهة أخرى. لكن هذا الوضع مختلف تماماً عما هو قائم اليوم، فالدارس لمشهد الإبداع والأدب والثقافة اليوم يقف في حيرة تجاه تعدد الأسماء وكثرتها، حتى يصعب التعرف عليها عن كثب والتوقف أمام نتاجها، خصوصا حركة النشر العربية النشيطة جداً، التي صار يصعب جداً اللحاق بمنشوراتها من الرواية العربية والقصة، ونوعاً ما الشعر. وهذا يأتي متداخلاً مع لحظة إنسانية متشظية وراكضة ولاهثة، إن على مستوى جديدها التقني اليومي أو على مستوى شكل علاقاتها الواقعية والافتراضية.

Ad

يصعب جداً اليوم أن يتفق ناقدان أو قارئان على أهم خمسة أسماء تمثل المشهد الروائي، أو القصصي، أو الشعري في أي بلد عربي. ويبدو أكثر صعوبة التوقف أمام النتاج الإبداعي التراكمي لأي أديب شاب. ففي حين يتابع جمهور القراءة عملاً روائياً جيداً لكاتب شاب، ما يلبث أن يُصاب بخيبة أمل في عمله اللاحق، وإذا ما أشارت جائزة عربية كبيرة لكاتب شاب بإعطائه جائزة لرواية أو مجموعة قصصية أو ديوان شعر لافت، وصدّقها جمهور القراءة، وذهب لمطالعة نتاج ذلك الكاتب، وجده يتيما بعمل واحد، لذا ففي مقابل الكاتب الرمز، صار واقعنا العربي يضج بالكاتب العابر، الكاتب الذي أنتج عملاً إبداعياً واحداً وعُرف به، وشكّل من حوله دوائر معجبين ومعجبات، وأحاط نفسه بشللية مقيتة، وبعدها لا شيء. بعدها يأتي تلميع شبكات التواصل الاجتماعي، وتأتي جمل وسائل التواصل الاجتماعي البائسة. جمل تتخذ من الكلمات الطنانة معياراً لجودة العمل. مجاميع تُعلي من شأن بعضها البعض، الكل يمتدح الكل، والكل يرد جميل الكل، والكل يتربص بالكل. وهذا الوضع لا ينطبق على الكاتب وحده، بل تجاوزه للناشر العربي، الذي صار جل همّه إنتاج الجديد من الكتب والمزيد من الإنتاج والإنتاج، بما في ذلك الكتب المترجمة، دون النظر إلى أقل القليل بضرورة أن يتوافر العمل الأدبي على العناصر الفنية، ومكونات الجنس الأدبي المكتوب فيه.

نعم، المشهد الثقافي العربي اليوم يعوم فوق بحر من الأسماء، أسماء جديدة ومتجددة يصعب حتى تذكرها، وفوق بحر من دور النشر العربية الجديدة، وفوق بحر من الجوائز العربية، وفوق بحر من سيطرة عالم السوشيال ميديا، وليس من اعتراض أبداً على هذا الوضع، لو أن تلك الأسماء كرّست نفسها إبداعياً بكتاب وثان وثالث، وبسوية فنية محترمة. وليس من اعتراض مطلقاً، لو أن دور النشر العربية تقوم بدورها الإبداعي التثقيفي التنويري، فكلنا مع النشر وزيادة النشر وانتشار الكتاب العربي. وليس من بأس في حضور الجائزة العربية الشفافة والنزيهة والرصينة التي تكافئ الكاتب والكاتب، وتبني رصيداً من الثقة بينها وبين الجمهور. وليس من اعتراض ألبتة على الانتشار عبر وسائل شبكات التواصل الاجتماعي لو كان ذلك الانتشار مقترناً بمصداقية تحترم العمل الإبداعي أولاً، وتحترم ذائقة المتلقي ثانياً.

هي اللحظة الإنسانية العابرة، لحظة استهلاكية بامتياز، لذا يجاريها المشهد الإبداعي العربي بمنتج يصلح للاستخدام مرة واحدة ويُرمى بعدها إلى سلة النسيان.