على مرِّ العصور، وبقدر ما يكون للفكر والإبداع والأدب والفن من حرص على الاستقلال والخصوصية، فإن المثقف والحياة الثقافية لا يمكنهما العيش والعمل بمعزل عن الواقع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والعسكري. وتأسيساً على ذلك، فإنه يمكن اعتبار هزيمة 1967، علامةً وخطاً فاصلاً بين ما قبلها وما بعدها، ويمكن رصد ذلك جلياً على نتاج مختلف أجناس الإبداع الأدبي، مثلما على حركة المسرح والتشكيل والغناء، وكذلك الصحافة والإعلام.

نكسة 1967 كانت هزيمة نكراء ومخجلة ومدوية للأنظمة السياسية العسكرية العربية، عرَّت كذب وزيف جميع الشعارات السياسية والاجتماعية والاقتصادية المرفوعة قبلها، ومن جانب آخر ألقت بظلالها الثقيلة والقاتمة والمحبِطة على الشعوب العربية عامة، وعلى حالة الفكر والإبداع، وعلى المفكر والفنان العربيين خاصة. وليس صعباً على الدارس والمتأمل أن يرى البون الشاسع الذي يفصل بين نتاج أطروحات وفكر وثقافة وفنون ما قبل 67 وما جاء بعدها.

Ad

لقد احتاج الإنسان العربي؛ المفكر والفنان والأديب والمثقف، فترة من الزمن كي يستوعب فداحة ما حصل، بخسارة فلسطين واحتلال أجزاء غالية من مصر وسورية وحتى لبنان، وأن يلعق جراحه، وأن يبدأ خطواً جديداً ومختلفاً عما كان كائناً قبل الهزيمة، وأول ملامح هذا الخطو، هو انتفاء الثقة في الأنظمة العسكرية العربية الحاكمة، آنذاك، وإدانتها، نتيجة ما حصل، وأخيراً البحث عن مخرج لما تعيشه الأمة من حيف وهوان ودكتاتورية ولاعدالة، وتأخر في مختلف مناحي الحياة.

لقد عملت جميع توجهات الأحزاب السياسية العربية التي تشكلت بعد 67، وخاصة الأحزاب اليسارية والقومية، على المناداة بواقع جديد، وعلى كشف حقيقة ما حصل، وعلى تعرية الظلم والجور اللذين يرزح تحتهما المواطن العربي. وليس بحاجة لكثير من الأدلة للقول إن أحزاب اليسار العربي، ومَن كان بجوارها، قدمت التضحيات الكبيرة والمؤلمة، بغية التعبير عن إيمانها بقناعاتها، وقول الحقيقة، وإيصال صوتها إلى جمهور التلقي، وفي مختلف الأقطار العربية. ولقد صاحب ذلك استقطاب كبير من كلا المعسكرين؛ الرأسمالي والاشتراكي.

بعد عقد من الزمن، ومع نهاية السبعينيات وبدء الثمانينيات كان المشهد الثقافي العربي واضحاً ودالاً برموزه الفكرية والإبداعية على ساحة الأطروحات الفكرية النظرية، وعلى مستوى الشعر والقصة والرواية والمسرح والتشكيل والغناء. فقد أفرزت تلك المرحلة أصواتها الإبداعية المتفق على تميُّز عطائها، وحدة موهبتها، وطرحها الإنساني، وعلى مواكبتها لأهم المدارس الأدبية والفنية العالمية. وكانت هذه الأصوات في جلها يسارية التوجه، أو هي تسير في دروب الطرح الإنساني التقدمي الليبرالي. لذا كان سهلاً الوصول إلى نتاج تلك الأصوات الإبداعي ومتابعته وقراءته ومناقشته. وكان سهلاً أيضا الإشارة إلى الرموز المؤثرة والمتجددة في كل جنس، وخاصة التراكم الكمي لأصحاب تلك الرموز، وبالتالي، وأنا هنا أتكلم عن جيلي، لم نجد صعوبة بالوقوف عند أهم الأسماء العربية المبدعة، في كل مجالات الآداب والفنون، وكان أي عمل أدبي يصدر في أي قُطر عربي لقامة إبداعية كبيرة يحضر ويُقرأ ويُناقش على طول وعرض أقطار الوطن العربي، مما كرَّس أسماء مبدعة كانت، ولم تزل، مرجعاً للإبداع العربي الإنساني المتجدد والباقي.

وهنا لابد من الإشارة إلى علامة كبيرة ولافتة في مجمل نتاج تلك الفترة المحصورة بين 1967 وسبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، وهي أن أعمال تلك الفترة كشفت بجرأة وصدق فني كبيرين واقع الإنسان العربي المسحوق، وواقع الأنظمة العربية الدكتاتورية التسلطية، وكانت في رسالتها الأسمى تدعو وتأمل تغير الأنظمة، وبالتالي فإنها كانت تبشر بمستقبل وحياة أفضل للإنسان والوطن العربي. إذا كان يونيو 1967 يشكِّل منعطفاً تاريخياً، فإن تاريخاً عربياً مزلزلاً آخر شكَّل برأيي منعطفا لا يقل في فجائيته وفداحته في النتائج التي ترتبت على منعطف 67، وأعني بذلك تاريخ الثاني من أغسطس 1990، يوم غزا واحتل النظام الصدامي وطني الحبيب الكويت. وإذا كانت هزيمة 67 وحَّدت الشعوب العربية، وجعلتها تقف أمام نفسها، طامحة وحالمة بمستقبل أفضل، فإن أولى النتائج التي ترتبت على الثاني من أغسطس، هي انقسام الأنظمة، وللأسف الشعوب العربية معها، إلى معسكرين، مما شكَّل وجعاً دامياً ما زالت الشعوب العربية تدفع ثمنه حتى اليوم، وبعد مرور قرابة ثلاثة عقود على ذلك التاريخ الأسود.