هل تذكرون حملة "الحزب الديمقراطي الاجتماعي" الألماني خلال الانتخابات الأوروبية في عام 2014؟ قيل خلالها: "لن تصبح ألمانيا رئيسة المفوضية الأوروبية إلا بعد انتخاب مارتن شولز و"الحزب الديمقراطي الاجتماعي"! في تلك الفترة، كان شولز أبرز مرشح عن الحزب في أنحاء أوروبا، لكن تلك الرسالة كانت موجّهة مباشرةً إلى الناخبين الألمان.

بعد مرور خمس سنوات تقريباً، سترأس ألمانيا المفوضية الأوروبية حتماً، لكن من دون مساعدة "الحزب الديمقراطي الاجتماعي"، وقد رفض الديمقراطيون الاجتماعيون الألمان المنتمون إلى اليسار الوسطي في البرلمان الأوروبي التصويت لمصلحة أورسولا فون دير لاين... هذا إن استطعنا تصديق تصريحاتهم! في النهاية، يبقى التصويت في البرلمان سرياً. تنتمي فون دير لاين من جهتها إلى حزب "الاتحاد الديمقراطي المسيحي" اليميني الوسطي، علماً أنها كانت حتى الأمس وزيرة الدفاع الألمانية أيضاً.

Ad

لحسن الحظ تبدو الأغلبية الساحقة من الناخبين الأوروبيين مقتنعة بأن أي بلد يجب ألا يهيمن على الآخر، فلا تُقاس نوعية رئيس المفوضية بوطنه الأصلي، بل بأقواله وأفعاله، حيث كان فوز الأحزاب المؤيدة للاتحاد الأوروبي بأكثر من ثلثَي الأصوات خلال انتخابات شهر مايو خير مثال على ذلك.

لكن تحتل جنسية المرشح أهمية معيّنة طبعاً، ولا شك أن حصول ألمانيا على فرصة تعيين رئيس المفوضية للمرة الأولى منذ عهد والتر هالشتاين خلال الخمسينيات والستينيات نبأ سار، إنه نبأ سار لأوروبا لأن أورسولا فون دير لاين أوروبية بامتياز، وكمنفعة إضافية من المنتظر أن تشكّل الفائزة الجديدة أحد أقطاب الثنائي الفرنسي الألماني في عمق الاتحاد الأوروبي، إلى جانب كريستين لاغارد، الرئيسة الجديدة للبنك المركزي الأوروبي.

فازت فون دير لاين بالانتخابات بفارق ضئيل يقتصر على تسعة أصوات، وربما كسبت تأييد أعضاء البرلمان الهنغاريين الموالين لزعيم البلد الاستبدادي فيكتور أوربان، لكن في المقابل حرمها أشرس مؤيدي الاتحاد الأوروبي، مثل "حزب الخضر" وأعضاء "الحزب الديمقراطي الاجتماعي" الآنف ذكرهم، أصواتهم.

أمام هذا الوضع، هل يمكن اعتبار فون دير لاين رئيسة شائبة؟ والأسوأ من ذلك، هل تصبح مدينة لأوربان؟ طبعاً لا! إنها حجة من لم يصوّتوا لها لأنهم لم يختاروها، فأهم عامل يتعلق بأقوال فون دير لاين وأفعالها.

سبق أن قدمت أداءً قوياً في خطابها يوم الثلاثاء، فصنعت لحظة أوروبية خالدة حين عبّرت عن مشاعرها وأبدت معارضتها المباشرة لمخاطر اليمين الشعبوي، فقالت: "إنه أغلى شيء لدينا"! ثم هتفت في النهاية "تحيا أوروبا!" باللغات الألمانية والفرنسية والإنكليزية، وكان سماع هذا النوع من الخطاب العاطفي مؤثراً.

لكن يجب أن تدع أورسولا فون دير لاين أفعالها تتحدث عنها أكثر من أقوالها، ويتعين عليها من جهة أن تعمل محلياً على تبديد الانقسامات التي يؤججها الشعبويون اليمينيون، ويجب أن تنشط خارجياً من جهة أخرى لتقوية أوروبا باعتبارها نموذجاً للديمقراطية في العالم. تتعدد القضايا المُلحّة، منها سياسة الهجرة، والضمان الاجتماعي، وتوزيع الثروات غير العادل، والسيادة الأوروبية.

كان خطابها يوم الثلاثاء كفيلاً بمنع السياسيين الأوروبيين في معسكر اليمين المتطرف من الإشادة بدورهم في انتخابها، كما حاول أن يفعل أوربان بعدما رشّحها قادة هنغاريا في الاتحاد الأوروبي، حيث شكّلت النتيجة هزيمة لليمين المتطرف و"الحزب الديمقراطي الاجتماعي" أيضاً.

أما امتناع اليساريين الوسطيين عن التصويت لزميلتهم السابقة في حزب "الاتحاد الديمقراطي المسيحي"، بعدما تشاركوا إدارة الحكومة معاً، فكان شكلاً من النذالة السياسة على أقل تقدير.

هل كانوا متعلّقين بنموذج المرشح القيادي لدرجة أن يصوّتوا ضد فون دير لاين من باب التمسك بهذا المبدأ؟ في هذه الحالة، لماذا لم يدعموا مانفريد ويبر، أبرز مرشح محافظ عن "حزب الشعب الأوروبي"؟ حتى فرانس تيمرمانز، أبرز مرشح هولندي عن الديمقراطيين الاجتماعيين في البرلمان الأوروبي أعلن دعمه لفون دير لاين في حين تابع رفاقها في "الحزب الديمقراطي الاجتماعي" التعبير عن معارضتهم لها!

عملياً، أدخل "الحزب الديمقراطي الاجتماعي" نفسه في مأزق استراتيجي وعجز عن الخروج منه في الوقت المناسب، فكان الديمقراطيون الاجتماعيون محظوظين جداً لأن فون دير لاين لم تخسر الانتخابات بسببهم، مع أن النتيجة النهائية كانت متقاربة بما يكفي. حتى أن بعض أعضاء "الحزب الديمقراطي الاجتماعي" تنفس الصعداء بعد إعلان نتائج الانتخابات، لكنّ هؤلاء الأشخاص ليسوا أعضاءً في البرلمان الأوروبي للأسف!