تشمل الألغاز الكبرى المحيطة بسياسة إدارة ترامب الخارجية الغاية النهائية من لعبتها الإيرانية. هل هدفها، كما صرّح وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو، صفقة إيرانية جديدة أكثر صوناً لمصالح الولايات المتحدة مقارنةً بالصفقة التي عقدها سلفه؟ أم أنه انهيار النظام أو تغييره، كما أقر مستشار الرئيس ترامب للأمن القوم جون بولتون؟ وما رغبة ترامب التحديد، ذلك الرئيس الذي يتأرجح بين تهديد إيران بالفناء حيناً والإصرار على اقتراح لقاء مع الرئيس الإيراني أحياناً؟

الجواب الأكثر احتمالاً أن ترامب يجهل كيفية التعاطي مع إيران، وإن كان يعرف، فلا شك أن إدارته لم توضح ذلك، فكم بالأحرى مشاركته في غناء اللحن ذاته؟

Ad

لكن ترامب يعي جيداً أن خوض صراع عسكري مع إيران أو مفاوضات خطيرة قد تتطلب تنازلات من الولايات المتحدة يشكّل سياسة سيئة: سيئة لقاعدته الشعبية وصورته أمام الديمقراطيين، وخصوصاً مع اقترابه من عام 2020.

على غرار الجزء الأكبر من سياسة ترامب الخارجية، يحفّز تقاطع السياسات المحلية مع غروره وعجرفته مقاربته بشأن إيران، فخلال حملته، عارض ترامب بشدة الاتفاق النووي الإيراني لعام 2015، مستخدماً إياها لفصل نفسه عن سلفه، للتنديد بهيلاري كلينتون، لاستمالة الناخبين الإنجيليين، الجمهوريين المحافظين، والمجتمع المؤيد لإسرائيل، ولتمهيد الدرب أمام روابط أقوى بين إسرائيل والمملكة العربية السعودية اللتين كرهتا الصفقة على حد سواء.

عمد ترامب في الوقت عينه إلى التغني بمهاراته في التفاوض، وادعى أنه ما كان ليرضى بما وصفه بأسوأ اتفاق في تاريخ الإنسان، وقد سعت مجموعة مستشاريه الأولى، وهم جميعاً رجال وقورون: وزير الدفاع جيمس ماتيس، ووزير الخارجية ريكس تيلرسون، ومستشار الأمن القومي هيربرت ماكماستر، إلى إقناعه بالتمسك بصفقة أراد بكل وضوح التخلي عنها، ولكن في أواخر شهر مايو، بدا ترامب تواقاً إلى الوفاء بوعد حملته. وبتشجيع من مستشارَيه المتشددَين الجديدَين بولتون وبومبيو، أقدم على انسحاب أحادي الطرف من هذا الاتفاق.

تكمن المشكلة في أن ترامب، بخلاف حملةٍ من الضغط الأقصى (خنْق إيران بمزيد من العقوبات، وخصوصاً محاولة قطع شريان صادرات النفط الذي يغذيها بالكامل)، ما كان يملك أي خطة بديلة، ويبدو أن الإدارة لم تأخذ في الاعتبار في مقاربتها المتشددة احتمال أن إيران، عندما تتعرض للضغط، قد ترد بقوة، وهذا ما فعلته الشهر الماضي بزرع ألغام لناقلات نفط في الخليج العربي وإسقاط طائرة أميركية من دون طيار كبيرة ومكلفة جداً.

انتهكت إيران أيضاً بنداً إضافياً من بنود هذا الاتفاق بتخطيها كمية اليورانيوم المنخفض التخصيب القصوى التي سمح لها بامتلاكها، وتهدد إيران أنها قد تعمد في غضون ستين يوماً إلى التخصيب بمستويات أعلى.

نظراً إلى تنامي احتمال التصعيد في التعاطي مع إيران في الخليج العربي، نرى أن ترامب قد أوقع نفسه في مأزق. طالب بولتون برد عسكري على إسقاط الطائرة من دون طيار، لكن ترامب تراجع في اللحظات الأخيرة على ما يبدو، وفي المقابل، إذا أراد ترامب التحاور مع إيران، فهو يبعث إذاً بالإشارات الخاطئة عندما يفرض عقوبات على القائد الأعلى الإيراني ويعزز الضغط. في مطلق الأحوال أوضحت إيران أنها لا ترغب في التحاور.

يدرك ترامب أن خوض حرب جديدة بعدما وعد قاعدته أن هدفه الاستراتيجي الخروج من حروب لا يمكن الفوز بها، وخصوصاً مع بدء موسم الانتخابات، لا يشكّل خطوة ذكية، كذلك لا يُعتبر ارتفاع أسعار النفط وبالتالي الغاز (الذي يشكّل بالتأكيد خاصية ثابتة في أي صراع مسلح مستدام مع إيران) خطوة جيدة من الناحية الاقتصادية، بالإضافة إلى ذلك، لن يكون التفاوض مع طهران بغية التوصل إلى صفقة جديدة من نوع ما سهلاً أو قليل الكلفة. يخدع فريق ترامب نفسه إذا ظن أنه يستطيع التفاوض مع إيران من دون التخلي عن أمر مهم في المقابل، فكم بالأحرى العودة إلى اتفاق الوضع القائم الذي وصفه ترامب بالأسوأ في التاريخ؟

أظن أن ترامب يتمنى لو أن المسألة الإيرانية تختفي من تلقاء ذاتها، فالحرب مع إيران مكلفة، ومن غير المرجح التوصل إلى اتفاق. علاوة على ذلك، لا تتلاءم إيران مع مفهوم ترامب عن الانتصار الكبير، ويسعى الرئيس الأميركي إلى صفقة مع كوريا الشمالية، علماً أن هذه مهمة قد تمنحه جائزة نوبل للسلام ومكانة بارزة في كتب التاريخ، فضلاً عن أنها قد تميّزه عن كل أسلافه.

شكّلت إيران صفقة أوباما، وكانت صفقة سيئة، وإلا ما قد يدفع ترامب إلى تملق حاكم مستبد عنيف لا يرحم يملك سجلاً أسوأ من الإيرانيين في مجال حقوق الإنسان؟

تشير كل الترجيحات إلى أن ترامب سيحرص في الوقت عينه على تفادي تحقيق إنجاز سياسي محفوف بالمخاطر أو خوض صراع عسكري خطير في تعاطيه مع إيران، وسيواصل الضغط عليها وربما يحاول فتح قناة مع إيران، بيد أنه سيسعى إلى تجنب أي مواجهة عسكرية، ولكن علينا أن ننتظر لنرى ما إذا كانت إيران ستتقيد بنصه هذا.

*«آرون ديفيد ميلر»