في الثامن والعشرين والتاسع والعشرين من يونيو تستضيف اليابان أول قمة لمجموعة العشرين تعقد على أرضها، حيث أقيم التجمع الأولي لقادة مجموعة العشرين في نوفمبر 2008، وسط الاضطرابات التي عصفت بالأسواق المالية العالمية في أعقاب انهيار ليمان براذرز، وقد أصدرت تلك القمة بيانا واضحا: "نحن نؤكد الأهمية الحاسمة لرفض سياسات الحماية وعدم الانغلاق على الذات في أوقات عدم اليقين المالي". بعبارة أخرى، اتفق قادة أكبر اقتصادات العالم على عدم تكرار أخطاء السياسة التي أدت إلى تفاقم الكساد العظيم في ثلاثينيات القرن العشرين.

للأسف الشديد، لم يتبق من تلك الروح المنفتحة التعاونية إلا القليل اليوم، وحتى قبل انتخاب دونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة، كانت الاقتصادات الرائدة في العالم تستسلم لإغراءات الحماية، لكن ترامب دفع بهذه المشكلة إلى درجة الغليان: فكان القرار الذي اتخذه بسحب الولايات المتحدة من اتفاق الشراكة عبر المحيط الهادئ الأول بين العديد من التدابير التجارية المتهورة، والتي يبرز بينها أيضا هجوم التعريفات الجمركية الحالي الذي يشنه ضد الصين، كما كان جمود ترامب وعدم مرونته في قمة مجموعة العشرين الأخيرة في بوينس آيرس سببا في إصدار أول بيان رسمي عن اجتماعات القمة لم يتضمن تعهدا بمقاومة سياسات الحماية.

Ad

رغم أن الحملة التجارية التي يشنها ترامب مرتجلة على الدوام وتتناعم على نحو مربك مع غيرها من عناصر السياسة الخارجية الأميركية، فإنها تعكس مجموعة من المعتقدات الاقتصادية الواضحة. في الأساس، يرى ترامب أن التجارة الدولية مباراة محصلتها صِفر حيث لا تفوز الدول إلا من خلال زيادة صادراتها عن وارداتها. وعن الدول التي تعاني عجزا خارجيا، مثل الولايات المتحدة، فهو يعتقد أن "الحروب التجارية وسيلة جيدة وسهلة للفوز": فيكفي، كما يزعم، أن تتوقف الولايات المتحدة عن التجارة مع الدول التي تدير معها فوائض ثنائية ضخمة.

الحقيقة هي أن التجارة الدولية ليست مباراة محصلتها صِفر على الإطلاق. فتاريخيا، كانت التجارة الحرة مرتبطة بزيادة عامة في الرخاء، ولا يعتمد نجاح أي بلد في الاقتصاد العالمي بالضرورة على تجاوز صادراته لوارداته. تمول الولايات المتحدة عجزها التجاري بسهولة بفضل وضع الدولار كعملة احتياطية دولية رئيسية، "الامتياز الباهظ" الذي أشار إليه الرئيس الفرنسي السابق فاليري جيسكار ديستان ذات يوم.

لكن حساسية ترامب تجاه العجز التجاري لن تُعالَج بجرعة من الاقتصاد التقليدي، وهو ما يرجع في الأساس إلى حقيقة مفادها أن عجز أميركا التجاري الأكبر هو مع الصين، القوة التي تهدد هيمنتها العالمية. يعمل مستشار البيت الأبيض التجاري بيتر نافارو، الذي ألف كتاب "الموت على يد الصين" ثم قام بتحويله إلى فيلم وثائقي، على تغذية شعور الإدارة بتعرض الولايات المتحدة للخطر، وبتطبيق النهج نفسه الذي يفتقر إلى الدقة كما يوحي عنوان الكتاب، يلقي نافارو باللوم على الصين حصريا عن اختفاء وظائف التصنيع في الولايات المتحدة، متجاهلا عوامل أخرى مهمة مثل عمليات الإنتاج التي تعتمد على التشغيل الآلي على نحو متزايد.

لا شك أن التشخيص الخاطئ يؤدي إلى علاج غير صحيح. تحاول إدارة ترامب إعادة الوظائف الأميركية من خلال جعل الواردات أكثر تكلفة بفرض التعريفات الجمركية عليها، لكن تدابير الحماية من غير الممكن أن تعوض عن التأثيرات المترتبة على التشغيل الآلي (الأتمتة)، علاوة على ذلك، أدى نمو سلاسل القيمة العالمية إلى زيادة مذهلة في التجارة في المنتجات الوسيطة. وعلى هذا فإن رفع أسعار الواردات من الممكن أن يضرب صادرات الولايات المتحدة (على سبيل المثال، تستورد الولايات المتحدة كميات ضخمة من مدخلات الإنتاج من الصين)، كما أدت التعريفات المرتفعة إلى ارتفاع الأسعار بشكل كبير على المستهلكين الأميركيين؛ على نحو مماثل، يشعر المنتجون الأميركيون باحتدام الأمور مع لجوء الصين ودول أخرى إلى فرض تعريفات انتقامية. ربما يكون اقتراح تعريفة أعلى عندما تتعطل أسواق العمل فكرة هَدَّامة، ولكن كما أوضح الخبيران الاقتصاديان من جامعة هارفارد، رافاييل دي تيلا وداني رودريك، فإنه يحظى بشعبية في الولايات المتحدة. ويكتسب الخطاب الدهمائي قدرا متزايدا من الثِقَل بسهولة أكبر عندما يركز على بلدان تنتهج معايير عمل ضعيفة نسبيا، مثل الصين: تسارعت انطلاقة الصين الاقتصادية بشكل كبير بعد انضمامها إلى منظمة التجارة العالمية في عام 2001.

يزعم ترامب أن الصين تتمتع بظروف مواتية في منظمة التجارة العالمية (وهذا صحيح) وأن آليات المنظمة لتسوية المنازعات منحازة ضد الولايات المتحدة (وهذا زيف سافر). استنادا إلى العقل والمنطق، تمنع الولايات المتحدة تعيين قضاة جدد في هيئة الاستئناف التابعة لمنظمة التجارة العالمية، والتي قد تتوقف عن العمل بحلول شهر ديسمبر نتيجة لهذا، ورغم أن أعضاء آخرين في منظمة التجارة العالمية يفكرون بالفعل في تصحيحات محتملة لتجنب الشلل، فإن المنظمة ذاتها يجب أن تتخذ موقفا أكثر استباقية حتى يتسنى لها إيجاد حل دائم.

يتمثل اتجاه آخر للسياسة التجارية الأميركية يهدد بالتحول إلى اتجاه مزمن في اللعب على وتر "الأمن القومي" لتبرير التعريفات الجمركية، والتي تشكل انتهاكا لقواعد منظمة التجارة العالمية. وإذا كانت دول أخرى راغبة في نجاة النظام التجاري المتعدد الأطراف من هجمات ترامب التعسفية، فسوف يكون لزاما عليها أن تبذل جهودا كبيرة لإبقاء "صندوق باندورا" مغلقا، بيد أن هذا لا يتعارض مع إصلاح منظمة التجارة العالمية من أجل إغلاق الثغرات التنظيمية التي لا يمكن الدفاع عنها والتي تستغلها الصين روتينيا.

ستواصل الولايات المتحدة في الأرجح انجرافها مع تدابير الحماية في القمة المقبلة في أوساكا، لكن دول مجوعة العشرين الأخرى لابد أن تستغل المناسبة لتقديم حجة واضحة لمصلحة التجارة الحرة. على سبيل المثال، قبل بضعة أشهر، دخلت حيز التنفيذ اتفاقية الشراكة الاقتصادية بين الاتحاد الأوروبي واليابان (التي تمكنت حكومتها أيضا من إحياء الشراكة عبر المحيط الهادئ). وبهذا الاتفاق الجديد، تمكنت اثنتان من أكبر القوى الاقتصادية في العالم من دفع جهود تحرير التجارة إلى الأمام على الرغم من تحفظ الولايات المتحدة، مع العمل في الوقت ذاته على دمج الترويج لمعايير اجتماعية وبيئية طموحة. في ضوء الابتزاز المتواصل من جانب ترامب، ربما تفكر بعض البلدان حتى في اتخاذ تدابير أكثر صرامة. من الواضح أن الرئيس الأميركي لا يتردد في استغلال هيمنة الدولار الأميركي من خلال فرض عقوبات خارج حدود الدولة مصممة لعرقلة التجارة الدولية، كما اتضح من محاولته عزل إيران. تتمثل الاستجابة المعقولة في العمل نحو تنويع العملات التي تقوم بها التجارة الدولية.

من عجيب المفارقات أن هذا السيناريو- وهو بعيد، لكنه ليس مستحيلا- ربما يعطي ترامب في النهاية صيغة قابلة للتطبيق لخفض العجز التجاري الأميركي. وستستفيد الصادرات الأميركية من زوال هيمنة الدولار، لكن هذا من شأنه أيضا أن يؤدي إلى زيادة أسعار الفائدة الطويلة الأجل في الولايات المتحدة وانحسار نفوذ واشنطن الجيوستراتيجي، الأمر الوحيد المؤكد هو أن ترامب سيصر على الاستمرار في الاستغراق في خيالاته السحرية، بدلا من شرح هذه المقايضات للناخبين الأميركيين بصراحة.

* خافيير سولانا

* كان ممثل الاتحاد الأوروبي الأعلى للسياسة الخارجية والأمنية، والأمين العام لمنظمة حلف شمال الأطلسي، ووزير خارجية إسبانيا سابقا، ويشغل حاليا منصب رئيس مركز إيساد للاقتصاد العالمي والدراسات الجيوسياسية، وهو زميل متميز لدى مؤسسة بروكنجز، وعضو "مجلس الأجندة العالمية بشأن أوروبا" التابع للمنتدى الاقتصادي العالمي.

«بروجيكت سنديكيت، 2019» بالاتفاق مع «الجريدة»