استخدم الرئيس الأميركي دونالد ترامب الأمن القومي مبرراً لفرض رسوم جمركية على واردات الصلب، والتهديد بزيادات كبيرة في الرسوم على السيارات، وتوعد أخيراً بفرض رسوم على الواردات المكسيكية.

وكان مما أعلنه (أكتفي هنا بمثال واحد فقط) أنه «إذا لم تكن لديك صناعة صلب، فليست لديك دولة». ورغم ما تحمله دعوى الأمن القومي التي يسوقها ترامب من سخافة في ظاهرها، فإنها تثير تساؤلات صعبة بشأن نظام التجارة العالمي، والحوكمة الاقتصادية العالمية على نطاق أوسع.

Ad

يكمن التحدي الصعب الذي يواجه الحوكمة العالمية في تحديد الخط الفاصل بين مجالات السياسات التي تتاح فيها للدول القومية حرية التصرف كما يحلو لها، وتلك المجالات الأخرى التي ينظمها الاتفاق الدولي.

وفي ظل اقتصاد عالمي بات متداخلاً ومعتمداً على بعضه بعضاً بصورة متزايدة، فإن كل ما تقوم به أي دولة تقريباً يؤثر بشكل غير مباشر على الدول الأخرى.

غير أن مثل تلك التأثيرات غير المباشرة لا تمثل في حد ذاتها سبباً كافياً لتقييد استقلالية الدول. فلو نظرنا مثلاً إلى التعليم العام أو الضرائب المفروضة على البنزين أو الحدود القصوى للسرعات على الطرق السريعة، لوجدنا أن لكل من هذه السياسات عواقب وتبعات على الشركاء التجاريين.

فالارتقاء بالمهارات يغير الميزة النسبية لأي بلد، ومن ثم الفرص التجارية.

كما تؤثر الضرائب على البنزين والحدود القصوى للسرعات في الطلب على النفط، وبالتالي في الأسعار بالأسواق العالمية.

لكن مثل هذه السياسات غير مُنظمة دوليا، والإقدام على تنظيمها قد يُنظر إليه على نطاق واسع على أنه أمر سخيف، وهي نظرة قد تكون محقة أيضاً.

تقوم الحجة المعيارية لمصلحة الحوكمة العالمية على فئتين من المشاكل: الأولى تتعلق بالمنافع العامة العالمية (أو المضار): وهي السياسات التي تفيد العالم عموماً، لكنها تكون ذات فائدة محدودة أو غير ذات فائدة للدولة، ومن الأمثلة الرئيسة لذلك الضوابط المفروضة على انبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحراري الكوكبي.

أما الفئة الثانية من المشاكل فتتمثل فيما يسمى بسياسات «إفقار الجار»: ويقصد بها أعمال تعود بفوائد اقتصادية على الدولة لكنها تصل إلى حد الإضرار بالآخرين، إضافة إلى التسبب في قصور عالمي. ومن الأمثلة التقليدية لتلك المشكلة تكوين تكتلات لاحتكار سلع نادرة بهدف انتزاع أسعار احتكارية من الشركاء التجاريين.

تقدم تلك القضايا حججاً قوية ومتقنة تدعم الحوكمة الاقتصادية العالمية. لكن قليلاً من القضايا التي تشغل بال صانعي السياسات هذه الأيام يقع بشكل دقيق في نطاق إحدى هاتين الفئتين أو الأخرى.

فالإعانات الحكومية، والسياسات الصناعية، ورسوم حماية الوظائف، والتدابير التي تستهدف المخاوف الصحية أو الاجتماعية بعيداً عن الرسوم، والتنظيمات المالية الضعيفة، والسياسات النقدية غير الملائمة (المفرطة في التقشف) لا تقع في نطاق سياسات المنافع أو المضار العامة عالمية كانت أو سياسات إفقار الجار.

بل إن بعض تلك السياسات يقع في الحقيقة في نطاق سياسات إفقار الذات، والبعض الآخر من تلك السياسات يجلب بالتأكيد فوائد ومنافع داخلية، لكن هذا بسبب معالجتها تشوهات بالسوق الحقيقية أو أهدافاً اجتماعية مشروعة، وليس لفرضها تكاليف على الدول الأخرى.

وإذا كانت الحوكمة العالمية تمر بحالة من الفوضى والاضطراب حالياً، فسبب هذا أن الكثير من السياسات أضحت مدولة بفعل المصادفة أو من خلال عمل مجموعات الضغط السياسية، وليس لأي سبب اقتصادي حقيقي.

فيما يتعلق بقضية الأمن القومي كذريعة لفرض الرسوم، نقول إنه إذا كانت حجة ترامب واهية، كما يعتقد كثيرون، فإن الاقتصاد الأميركي هو الذي يتحمل أولاً وأخيراً تكاليف النهج المضلَّل الذي ينتهجه ترامب، بمعنى أن رسوم ترامب تمثل ضرباً من سياسات إفقار الذات.

لكن، على الجانب الآخر، لو أعطينا ترامب فرصة الاستفادة من قرينة الشك، وكان لدينا استعداد لتقبل وجود قضية أمن قومي حقيقية، فمن الملائم إذاً أن يُتخذ القرار على المستوى الداخلي.

من المستحيل معرفة الحالات التي تنطبق عليها السياسات قبل تطبيقها من قبل الدول. وعلى أي حال، ليس من الحكمة تفويض سلطة مطلقة في يد هيئة دولية. وحتى عندما تكون هناك سياسة ما مضلَّلة، مثل فرض رسوم بحجة الأمن القومي، ينبغي ــ كقاعدة عامة ــ السماح للدول الديمقراطية بأن تخطئ، إذ سيكون من غير المناسب تمكين نظم بيروقراطية دولية من منع دول من الإضرار بذاتها عندما تكون هناك حالة من الغموض الهائل سابقاً، كما أنها ستسجل سابقة خطيرة لمجالات أخرى.

في حالة الأمن القومي، تتسم مبادئ منظمة التجارة العالمية بالغموض، كما أنها لم تُختبر بعد بالشكل الكافي. وحسبما يبدو، يفتح النص المتعلق بتلك القضية الباب على مصراعيه بقوله «لا يمكن تفسير أي من بنود هذه الاتفاقية... لمنع أي طرف متعاقد من اتخاذ أي إجراءات يعتبرها ضرورية لحماية مصالحة الأمنية الأساسية».

لكن منظمة التجارة العالمية تبنت موقفا يخول لها إمكانية مراجعة القرارات القومية في هذا المجال وتقرير مدى ملاءمتها، وذلك في حكم صدر أخيراً بشأن قضية لم تكن الولايات المتحدة طرفاً فيها. وكما هو متوقع، انتقدت الولايات المتحدة هذا القرار. يجب على المتحمسين للحوكمة العالمية أن يضعوا في حساباتهم حقيقة أن أخطاء السياسات في الاقتصاد العالمي اليوم ــ كما هي الحال مع رسوم ترامب ــ تحدث نتيجة إخفاقات على المستوى القومي، لا بسبب عدم التعاون الدولي. فالرسوم التي فرضها ترامب تعتبر سياسية سيئة بسبب فرضها تكاليف كبيرة مباشرة على الاقتصاد الأميركي، لا لإضرارها بدول أخرى بعينها.

ولا يمكن التعويل على الترتيبات العالمية لمنع مثل تلك الإخفاقات الداخلية، كما يحتمل أن تختطف المصالح الخاصة، مثل العمليات السياسية الداخلية، مثل هذه الترتيبات ــ لا سيما في ظل شرعية أقل ديمقراطية. بل ربما أفضت القيود الخارجية في الحقيقة إلى تفاقم إخفاقات الحوكمة الداخلية، إلى حد تمكينها الجماعات ذات المصالح الخاصة على حساب الجماهير العريضة.

لكن أفضل ما نأمله هو تحقيق ما يمكن تسميته «حوكمة عالمية معززة للديمقراطية» تترك معظم مجالات السياسات ــ وهي تلك المجالات التي لا يمكن تصنيفها كسياسات منافع عامة عالمية أو سياسات إفقار الجار ــ لكل دولة كي تنظمها كما تشاء، على عكس «الحوكمة العالمية المعززة للعولمة». وقد تقتصر الرقابة العالمية على الشروط الإجرائية مثل الشفافية والمساءلة ومشاركة أصحاب المصالح ذوي الصلة، واستخدام الأدلة العلمية أو الاقتصادية، بهدف تقوية التشاور الديمقراطي الداخلي دون الحكم على الناتج النهائي بشكل سابق.

أشك في أن يصنع مثل هذا الأسلوب الخفيف من الحوكمة العالمية فارقاً عندما يتعلق الأمر بحماقات ترامب التجارية، لكنه على الأقل قد يحرم ترامب (وغيره من السياسيين القوميين المتعصبين) من أي أساس لشكواهم المزمنة من دهس منظمة التجارة العالمية والهيئات الدولية الأخرى للسيادة الوطنية.

* أستاذ الاقتصاد السياسي الدولي في كلية جون ف. كينيدي للإدارة الحكومية، جامعة هافارد، ومؤلف كتاب: حديث صريح عن التجارة: أفكار لاقتصاد عالمي عاقل.

«بروجيكت سنديكيت، 2019» بالاتفاق مع «الجريدة»