لذا كانت سعادته لاتوصف في القصة للأديب الكبير نجيب محفوظ

والسيناريو والحوار لممدوح الليثي المتحمس لموهبته وصاحب ترشيحه للدور، وأمام نجمة مثل سعاد حسني، ويتولى إخراج الفيلم علي بدرخان أحد الأسماء الواعدة في تلك الفترة، باختصار فرصة العمر التي لم تخطر على باله أبداً، لذا لم ينم ليلتها وظل يتعجل الثواني الدقائق حتى يحين موعد لقائه بالليثي في مكتب منتج الفيلم رمسيس نجيب أحد أبرز الأسماء في عالم الإنتاج السينمائي.

Ad

المفاجأة القاتلة

ذهب زكي في الموعد المحدد، وبالفعل استقبله الليثي بترحاب شديد وقدمه المنتج رمسيس نجيب مؤكداً له أنه موهبة كبيرة تؤكدها الأيام القادمة، وأنه جدير فعلاً بهذه الفرصة وأنه شخصياً متحمس جداً لموهبته ويراه أنسب من يجسد شخصية إسماعيل (طالب كلية الطب الذي يتم اعتقاله ظلماً مع عدد من زملائه بتهمة انتقاد ثورة يوليو)، وبينما كان الراحل ممدوح الليثي يثني بحماس على موهبة زكي كما سبق وحكى عن هذه الواقعة في أحد حواراته، كانت عيون المنتج تتفحص الأسمر النحيل من أسفل لأعلى ومن دون اهتمام بكل عبارات الإطراء التي قالها الليثي والذي واصل قائلاً: «ده ممثل هايل وموهوب وبكره يبقى نجم كبير و...إلا أن رمسيس نجيب قاطعه باستهزاء قائلاً: مين؟ ده؟

للحظات لم يستوعب الليثي نبرة الاستهزاء والاستنكار التي غلفت أسئلة المنتج رمسيس نجيب، فظل يواصل:» أيوة أنا شفت كل شغله، ده موهوب جداً، و...

إلا أن نجيب رمسيس كما حكى الليثي في أحد حواراته قاطعه بحده قائلاً: «إنت اتجننت يا ممدوح؟ إنت عاوز ده (وأصابعه تشير لزكي) يمثل قدام سعاد حسني، وكمان تحبه؟ سعاد حسني تحب ده؟ أنت جرالك أيه يا ممدوح؟!

وخلال نفس الحوار حكى الراحل ممدوح الليثي أن أحمد زكي تسمر في مكانه ولم يستوعب لثوان ماذا يفعل ولا كيف يرد على هذه المهانة، فيما واصل رمسيس نجيب: «معلش يا ابني روح دلوقت وهنبقي نبعت لك لما يكون في دور مناسب لك»، حينها لم يستطع زكي التحكم في أعصابه أكثر من ذلك فثار موجها كلامه لي: «حرام عليك يا أستاذ ممدوح ليه تبهدلني وتهيني كده، أنا عملت فيك أيه، يا ناس يا ظلمة حرام عليكم» ثم أمسك كوباً من الماء كان موجوداً على المكتب، فظن رمسيس أنه سيقذف به في وجهه، إلا أن زكي ضغط على الكوب فحطمه فسالت الدماء من يده، فجريت عليه واحتضنته في محاولة لتهدئته وضغطت على يديه حتى تتوقف الدماء.

خرج زكي ثائراً بعدما فشلت كل محاولات تهدئته، كان في حالة غضب شديدة، ظل يسير في الشوارع بلا هدي قبل أن تخذله أقدامه فعاد إلى البنسيون الذي كان يقيم فيه، فيما الجرائد في الأيام التالية تناولت الواقعة بأن الوجه الجديد أحمد زكي أقدم على الانتحار بقطع شرايين يده بعدما تم استبعاده من بطولة فيلم الكرنك، وانتشر الخبر وبات زكي حديث الوسط الفني، وكالعادة حاول الأصدقاء وفي مقدمتهم المبدع صلاح جاهين التخفيف عنه ودفعه لنسيان ما حدث لكنه لم يتمكن من تجاوز الأمر بسهولة، خصوصاً عندما قرأ في الصحف أنه بالفعل كان مرشحاً لبطولة أعمال أخرى، لكن «جهات إنتاجها» تراجعت بعد استبعاده من بطولة «الكرنك» بحجة أن «السوق» لا يقبل المخاطرة بوجه جديد يحلق بعيداً عن السائد والمتداول في مقاييس النجومية.

وخلال حوار زكي في إحدى الصحف قال الراحل: عندما سحب مني دور البطولة في «الكرنك» لأن «شكلي وحش»، حزنت على ضياع الدور وليس على البطولة، فأنا لم أهتم يوماً بحجم الدور فقط أحب التمثيل وأشعر بالسعادة وأنا «أشخص»، لهذا بصعوبة تجاوزت هذه الأزمة، رحت أواصل طريقي الذي خطه لي القدر فأنا لا يمكن أكون إلا فناناً.

على الجانب الآخر حرص الفنان نور الشريف الذي رشح للدور بديلاً لزكي علي أن يتواصل معه، حرصاً على الصداقة التي كانت قد جمعت بينهما عندما اشتركا معاً في فيلم «أبناء الصمت»، كان الأسمر غاضباً وحزينا، وكان الشريف في حيرة من أمره، بين حق الصداقة من جانب، وبين جودة الدور من جانب أخر، غير أنه حسم قراره «إن لم أمثله أنا مثله غيري».

أما الراحل أحمد زكي كان قد قال في أحد حواراته: بالتأكيد كنت حزيناً، و«غضبان منه جداً»، لكني في النهاية قدرت موقفه، والأهم إصراره علي أن «يطيب خاطري» حرصاً في النهاية على ما بيننا من صداقة.

فهل تجاوز زكي والشريف هذا الموقف أم أن «عقده الذنب» ظلت تطارد الأخير طويلاً، ما دفعه للاعتراف في كل حواراته التي ذكر فيها اسم زكي، أنه يتمتع بموهبة «استثنائية» وأن موهبته 10 على 10، بينما موهبة الشريف ليست أكثر من 7 علي 10 فقط، هل كان ذلك تقييماً مستحقاً (وهو كذلك بالفعل) لموهبة شهد لها الجميع، أم محاولة للتعويض؟

ربما تجاوزا الأمر بالفعل بدليل أن الراحل أحمد زكي كان قد رد على تقييم نور لموهبته قائلاً: «نور الشريف فنان كبير وهو مثل كل العمالقة كلما ارتفعت مكانته ازداد تواضعاً»، ورغم هذا بقيت «القطيعة الفنية» بينهما وللأبد إذ لم يجتمعا في أي عمل فني.

كلاكيت .. تاني مرة

بعد محنة «الكرنك» بدأ زكي يشارك في مسلسلات وأفلام بأدوار طبعت في الوجدان وأخذت ترسخ حروف اسمه الفني مثل مسلسلات «أنهار الملح»

و«اللسان المر» وهم من إخراج علوية زكي و«الغضب» للمخرج ممدوح مراد، «بستان الشوك» إخراج فخر الدين صلاح، كما واصل تعاونه مع المخرج محمد راضي في «صانع النجوم» وكان من تأليف مجيد طوبيا وبطولة محمود ياسين

وسهير رمزي وسعيد صالح ويونس شلبي، وهو أول فيلم يظهر صورة زكي على أفيش، ثم قدم معه فيلم «وراء الشمس» مع كوكبة من النجوم من بينهم نادية لطفي ورشدي أباظة وشكري سرحان وصلاح منصور، ونال عن دوره فيه إشادات كثيرة، كذلك دوره في فيلم «العمر لحظة» التجربة الرابعة مع المخرج محمد راضي عن قصة يوسف السباعي ومن إنتاج وبطولة الفنانة ماجدة الصباحي

وأحمد مظهر وناهد شريف، والذي جسد من خلاله دور جندي استشهد في حرب أكتوبر.

مرت الأيام الصعبة، وبدأ زكي يستعيد توازنه النفسي ويقتنع بأن الفرصة يمكن أن تأتي مجدداً، وبناء على نصيحة الأصدقاء وفي إطار البحث عن الاستقرار «نفسياً»، ودع زكي حياة الفنادق والبنسيونات» التي تردد عليها طوال هذه الفترة

واستأجر لأول مرة شقة صغيرة متواضعة في حي مصر الجديدة إلى جوار «حديقة المريلاند»، كان سعيداً جداً بها فلأول مرة يكون لديه منزل وليس مجرد حجرة يقيم بها، «مطبخ» يطهو فيه طعامه أو يعد كوبا من الشاي، باختصار «الخصوصية» وأحاسيس أخرى كثيرة لم يستشعرها من قبل وهو يتنقل بين الفنادق ومن قبلها بين بيوت الأهل.

في تلك الفترة كان المخرج يوسف شاهين يستعد لتحويل قصة شفيقة ومتولي لفيلم سينمائي، لكن ظروفه الصحية حالت دون البدء في تصويره، لذا عهد بالمشروع كله لتلميذه المخرج علي بدرخان، الذي تخرج في البداية، لكنه في النهاية تحمّس بعد إلحاح الأستاذ شريطة أن تكون له رؤيته الخاصة، وهو ما وافق عليه شاهين، وعلى الفور بدأ يستعد ويقوم بالتعديلات اللازمة على السيناريو الذي كان قد كتبه شوقي عبدالحكيم، وبالفعل أسند مهمة إعادة صياغة السيناريو للمبدع صلاح جاهين، الذي بدوره رشح زكي للقيام بدور متولي فيما شفيقة كانت من نصيب السندريلا سعاد حسني زوجة بدرخان في تلك الفترة.

من جانبه لم يمانع بدرخان في إسناد بطولة العمل للأسمر الموهوب خصوصاً أنه بالفعل كان متحمساً لموهبة زكي، ما ينفي تماماً فكرة تعويضه عما حدث له، وعندما حسم الأمر فضّل بدرخان أن يتولى جاهين مهمة إخبار زكي بأمر ترشيحه لبطولة الفيلم أمام السندريلا.

كان زكي يستمع لأستاذه ومعلمه وأبوه الروحي صلاح جاهين ولا يصدق أن ما يسمعه هو الحقيقة بعينها، نفس البطلة مع المخرج ذاته وكأن القدر يعوضه ويرد الاعتبار لموهبته التي ظلمها البعض، وقبل أن يسمح لقلبه بالفرح سأل عن منتج العمل رأيه في هذا الترشيح فابتسم جاهين وطمأن زكي بأنه من إنتاج أفلام مصر العالمية لصاحبها المخرج يوسف شاهين الذي يقدر المواهب

ويدعمها.

اللقاء الأول

في منزل المبدع صلاح جاهين التقي زكي ولأول مرة بالسندريلا إحدى أبرز المواهب «الاستثنائية» التي عرفتها السينما المصرية والعربية، وواحدة من المواهب التي شملها المبدع الراحل صلاح جاهين بالرعاية الإنسانية والفنية،

وثقته ويقينه وإيمانه بموهبة الأسمر العبقري والسندريلا وكان يتحين دوماً الفرصة لأن يجمع بينهما فنياً، وهو ما حدث بالفعل حيث اجتمعا لاحقاً في أكثر من عمل ناجح.

راح زكي يستعد للدور بكل حماس وتركيز فهو أول دور «مهم» يحصل عليه بعد عدد من المشاركات السينمائية «المتواضعة»، لذا راح يبذل جهداً مضاعفاً لإثبات قدراته كممثل ويؤكد أنه أحق بدور «الفتى الأول» بعيداً عن حسابات الشكل التي تحكم الاختيارات في تلك الفترة، سخر الفتى الأسمر كل أدواته كممثل وقدرته على التحول والتلون في الأداء بشكل لا مثيل له وفقاً لطبيعة الشخصية التي جسدها، ما يفسر سر الإشادات النقدية حينها والتي راحت تؤكد أنه تمكن بالموهبة وحدها من أن يفرض حضوره السينمائي الطاغي، ويثبت أنه قادر على لعب أدوار البطولة بل أن يكون نجماً جماهيرياً كبيراً.

في حوار للراحل أحمد زكي قال: كنت وسأظل سعيد جداً بهذا العمل الذي فجر الكثير من الكامن بداخلي، فقبلها كنت أعامل علي أنني «الدخيل» أو غير المرغوب فيه، فأنا مقبول في إطار لا يريد لي الآخرون الخروج منه، محكوم علي بالبقاء في دائرة محددة إذا ما حاولت الخروج منها، غير أنني تمكنت بالمقاومة والموهبة والإصرار على الإجادة من أن أحقق أول خطوة مهمة في مشواري، وأن أنتزع حق الاعتراف بموهبتي ومن دون جدال، ساعدني بالطبع توافر كل العناصر الفنية من نص متميز ومخرج واعٍ بأدواته متمكن منها،

ونجوم في مقدمتهم الرائعة الساحرة سعاد حسني التي تشعل حماسك ليس فقط للإجادة بل للتميز.

وواصل الراحل العبقري يحكي عن السندريلا قائلا: هذه الفنانة الرائعة أذهلتني

وأسعدتني في نفس الوقت، لا أنسى حينما قالت لي في أول مشهد جمع بيننا «أنت مستفز وتستفزني، ما بيننا لم يكن مباراة في الأداء بل معركة والشاطر هو من يكسب»، استفزتني وبدوري كنت أستفزها، وظلت هذه الحالة من الاستفزاز هي المشترك في كل الأعمال التي جمعتنا، كل منا كان حريصاً على أن يخرج أفضل ما لديه لمصلحة العمل الفني في الأساس، ولا أنسى لها مشهداً يدخل تاريخ الدراما من أوسع الأبواب قدمته في آخر أعمالها «الراعي والنساء» والذي كان أيضاً من إخراج علي بدرخان، كان المفروض أنني قررت الرحيل فوقفت تنظر لي ودموع محبوسة في عينيها ونظرة هي مزيج بين الإنكسار والاحتياج والحب، ومشاعر أخرى كثيرة تقول «ما تسبنيش يا حسن دا أنا محتاجة لك»، أربع كلمات فقط قالتها سعاد حسني جعلتني انفجر في البكاء بمجرد أن ينتهي تصوير المشهد، وكلما شاهدت هذه اللقطة على الشاشة أجد الدموع تتساقط رغماً عني، كانت رحمها الله شديدة الصدق وصاحبة موهبة لم ولن تتكرر،

وأنه لشيء رائع أن يسعدني الحظ بالوقوف ممثلاً أمام عملاقة مثلها.

نعي السندريلا

عندما رحلت سعاد حسني حرص أحمد زكي على أن ينشر في الصحف نعياً قال فيه: «إليها هي... إلى الفنانة سعاد حسني «يا أكثر الموهوبين اتقاناً، وأكثر العباقرة تواضعاً، وأكثر المتواضعين عبقرية، بوجودك ملأتي قلوب البشر بالبهجة وبغيابك ملأتيها بالحزن... استريحي الآن... اهدئي... يا من لم تعرف الراحة من قبل، لك الرحمة وكل الحب والتقدير...

أسكنك الله فسيح جناته يا من جعلت حياة الناس أكثر جمالاً».

حضور سينمائي لا بأس به

نجاح زكي في «شفيقة ومتولي» لفت نظر العديد من المخرجين وكان في مقدمتهم يوسف شاهين والذي رشحه للمشاركة في فيلمه «إسكندرية ليه» (1979) ليؤدي دور إبراهيم الشاب المثقف الذي ينضم للحركة الشيوعية في «إسكندرية الأربعينيات»، وتجمعه علاقة حب مع فتاة يهودية جميلة لعبت دورها الفنانة نجلاء فتحي، وعندما يعتقل يدافع عنه المحامي والد بطل الفيلم والذي لعب دوره الفنان محمود المليجي.

مرة أخرى يؤكد زكي حضوره السينمائي من خلال هذه التجربة على الرغم من صغر مساحة دوره مقارنة بـ«شفيقة ومتولي»، لكنه كان حريصاً على أن يترجم الشخصية بكل أبعادها ومكوناتها، أن يحول الحروف والكلمات لكيان حقيقي من لحم ودم يقنع الجمهور بمقدار صدقة وقد كان.

وهكذا صالحه القدر بعد قسوة البدايات والعثرات التي واجهته في بداية المشوار، فهل ظل الحظ حليفه أم ستعود ريما إلى سابق عهدها؟