قالت لها أتمنى أن أدعوك على الإفطار في بيتي المتواضع مع أولادي الثلاثة، ولكن أنا خجلة لن بيتي في حي الزهور، لمعت عينا السيدة وهي تسمع حي الزهور الذي هو أكثر من حي في أكثر من مدينة عربية، ليست كلها عواصم بل حتى المدن المتطرفة من خريطة الوطن. سرحت بعض الشيء في بحثها منذ سنين عندما اكتشفت فجأة أن هناك أحياء زهور في عدد من المدن العربية، وعندما بحثت عن تاريخها وجدت أن الكثير من التشابه يتبع الاسم، ففي معظمها هي أحياء فقيرة لسكان الطبقة الكادحة، حيث الجدار عند الجدار، وخلفها غرف صغيرة معتمة من ندرة الكهرباء أو كثرة انقطاعها، ورطبة من قلة دخول أشعة الشمس الدافئة إلى تلك المكعبات التي تسمى مساكن. يتعب سكانها من تعبهم، وهم يحاولون أن يخلقوا مساحات آدمية فيها، وتبقى هي أكثر دفئاً بقلوبهم من كثير من القصور الرخامية. استدرجت السيدة تلك الفتاة الأم في الحديث عن أسرتها الصغيرة والكبيرة، وعن حيهم الذي هو أكثر أمناً وسلاماً لامرأة مثلها، حيث تعيش وحيدة مع أولادها لعمل زوجها في مدينة بعيدة. تبقى هذه الأحياء خائفة على سكانها، تخلق للأطفال مساحات من رمل وطين ليلهوا بها، حيث لا حدائق عامة ولا فضاءات جماعية، تقول لها كنت سأدعوك لنجلس في الحديقة العامة القريبة من الحي، والتي كانت هي غرفة معيشة لكثيرين منا حتى استولى عليها ذاك المتنفذ، فاقتلع الشجر والياسمين والزهور، ورمى بالمراجيح الصدئة، وراح يحفر ويحفر عميقا في الأرض حتى تصور بعض الأهالي السذّج أن السبب في هدم الحديقة هو اكتشاف المسؤولين لآبار نفط أو غاز أو مناجم للذهب في قطعة الأرض تلك أو ربما آثار تاريخية.

عندما ردد أحدهم ذاك بقناعة العارف ضحك الشاب الجامعي، وقال له "أي نفط أي ذهب أي آثار؟"، ابحث عن الثروة! هز الرجل رأسه غاضبا أو ربما لأنه لم يفهم حتى هجمت الجرافات والرافعات ومئات العمال والمهندسين، وما هي إلا بضعة أشهر حتى ظهرت ملامح المجمع السكني والتجاري الفخم واضحة، وبدأت الأسوار بالارتفاع، وما هي إلا سنوات حتى تمدد المجمع وشُرد آخرون من بيوتهم لأن الفقر لا يتجاور مع الغنى، فكيف تتجاور النجاسة مع الطهارة، كما قال ذاك المسؤول الرفيع فوق كرسيه الذي بدا أكبر منه؟!

Ad

لم يدم الاسترسال طويلا، وعاد الحوار إلى نقطة البدء، وهي الدعوة على الإفطار من عاملة النظافة للسيدة التي تحمل بضعة أسطر قبل اسمها لوصف وظيفتها! رددت السيدة إنه يشرفها أن تفطر في المنزل المتواضع في حي الزهور، وعادت مرة أخرى تطرح السؤال نفسه: لماذا لا يوجد حي للزهور في مدينتها، رغم أن الفقر قد سوّر المدينة وراح محدودو الدخل يصطفون كما يحب البعض تسميتهم أو تجميلهم أو تنظيفهم من تلك الصفة التي تعد عند البعض عارا رغم أن السارقين يجوبون الشوارع والمجمعات فخرا واعتزازا هم وأبناؤهم!

يصطف محدودي الدخل عند مكاتب تردد عليهم عودوا غدا أو بعد غد أو الأفضل ألا تعودوا، فالقائمة طويلة لمن ينتظر بيتاً من بيوت الإسكان أو بيوت ذوي الدخل المحدود، وسمعت هي عبدالحليم في أغنيته الشهيرة، وقد حوّر بعضهم كلماتها من طول انتظاره "يا ولدي قد مات شهيدا من مات في انتظار بيت للإسكان؟!".

اضطرت الفتاة أن تعود إلى عملها حتى تلحق بإكمال مهماتها وتجري إلى البيت لإعداد وجبة إفطار شهية لها ولأبنائها ولضيفتها التي بقيت مشدوهة من كرم الفقراء في بلداننا وبخل الأغنياء، فعندما تشاركك عاملة النظافة إفطارها فهي بذلك قد تبخس في إفطاراتها المتبقية من النصف الثاني لشهر الصيام، لأنها فقط تعرف أن المحبة تعني أن تقتسم العيش والملح والرغيف وطبق الرز "المعمر".

وعادت السيدة إلى حزنها على أن فقراء مدينتها لا يملكون حتى حيا للزهور تحمل تسميته شيئا من الجمال الذي هو انعكاس لجمال سكانه من فقراء هذه الأرض الذين هم أكثر قربا منها.

* ينشر بالتزامن مع "الشروق" المصرية