تصادفت ذكرى النكبة الحادية والسبعون هذا العام مع حلول شهر رمضان المبارك، وتمعنت يوم الجمعة الماضية أثناء وجودي في القدس المشاهد المؤثرة لما لا يقل عن مئتي ألف من المواطنين الفلسطينيين الذين لم تمنعهم الحواجز، ولا أوامر المنع، ولا السفر المرهق، عن الإصرار على الوصول إلى المسجد الأقصى وأداء الصلاة فيه، في حين بدا أكبر وأكثر من مجرد أداء فرض ديني، تحول في الواقع إلى فعل للمقاومة الشعبية احتجاجا على كل ما قامت وتقوم به سلطات الاحتلال ضد الأقصى والقدس.

رجال ونساء وأطفال من كل الأعمار ومن كل المناطق ملؤوا شوارع القدس، وباحات المسجد الأقصى، بما في ذلك مصلى الرحمة ليرسلوا رسالة لنتنياهو، بأن مستوطناته، ومشاريع الضم والتهويد التي ينفذها، وصفقة القرن التي صاغها، ونقل السفارة الأميركية للقدس، لا يعني لهم شيئا، ولن يضعف أو يكسر صمودهم وإصرارهم على الحفاظ على القدس، والأقصى، وفلسطين.

Ad

ولعل أكثر الحقائق تأثيراً هي التي يحاول نتنياهو تجاهلها، وهو أن عدد الفلسطينيين على أرض فلسطين التاريخية، بعد واحد وسبعين عاما على تهجير 70% من سكانها، صار أكبر من عدد اليهود الإسرائيليين، وأن الفلسطينيين لم يكونوا في يوم من الأيام، أكثر وعيا، أو أشد تصميما على الصمود في وطنهم مما هم عليه اليوم. المضحك والمبكي، أنه وبعد مرور واحد وسبعين عاما على أسوأ مآسي التطهير العرقي التي مارستها العصابات الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني، وبعد أن كرست إسرائيل واحداً من أبشع أشكال أنظمة الأبارتهايد العنصرية، تخرج سلسلة من القرارات الغربية لمعاقبة الضحية، أي الفلسطينيين.

ترامب يقطع المساعدات عنهم، ويغلق مكتب ممثليتهم، ويشن حربا على وكالة الأمم المتحدة لغوث اللاجئين، ومسؤولو الاتحاد الأوروبي يقررون إرسال فريق تحقيق لفحص الكتب المدرسية الفلسطينية بحثا عن تحريض مزعوم، دون أن يستجيبوا لما طالب به الفلسطينيون مرارا وتكرارا بتشكيل لجنة تحقيق دولية مستقلة لفحص المناهج الفلسطينية والإسرائيلية في الوقت نفسه.

أما البرلمان الألماني، فيقدم بعد مناورات لتخفيف حدة قراره، على إصدار قرار غير ملزم، ولكنه مؤذ، يسم حركة المقاطعة ضد الأبارتهايد الإسرائيلي باللاسامية، ويدينها.

لا يمكن تفسير هذه الحملة الشرسة ضد الشعب الفلسطيني، إلا أنها رضوخ للإرهاب الفكري الذي يمارسه اللوبي الإسرائيلي، وتنكر فاضح لحق الشعوب في الكفاح من أجل حريتها، وخروج على ما تتغنى به الديمقراطية الغربية حول احترام الحق في "حرية التعبير"، بل إنها تمثل انغماسا في مشاركة إسرائيل في خرق القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة نفسها. والسؤال هنا، لماذا لم نسمع مثلا بقرار برلماني أوروبي يدين "قانون القومية" العنصري الإسرائيلي؟ أو يتخذ إجراءات عقابية ضد المستوطنات الاستعمارية التي يعرف الجميع أنها تخرق القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة؟ ولماذا تعلن العديد من الحكومات الأوروبية تأييدها "لحل الدولتين" ولكنها لا تتجرأ، باستثناء حكومة السويد، على الاعتراف بالدولة الفلسطينية؟ هل لأن من الأسهل على ممتهني السياسة مهاجمة، ومقارعة، ومعاقبة من يعتبرونه الطرف الأضعف في الصراع الدائر؟

يجب ألا تضعف هذه القرارات، الخارجة على قيم الحرية وحقوق الشعوب، إرادتنا، ولكنها تذكرنا بما تعرض له مارتن لوثر كنغ، وكفاحه ضد العنصرية، من ظلم وملاحقة وحتى اغتيال، وتذكرنا أيضا بالأوصاف التي أطلقت على نيلسون مانديلا بأنه إرهابي ومتطرف ومجرم، قبل أن يصبح أيقونة عالمية للحرية، يتمسح بها ممتهنو السياسة المحترفة.

بعد عقود لن يتذكر أحد أولئك الساسة الذين تطاولوا دون خجل على الشعب الفلسطيني ونضاله العادل من أجل الكرامة والحرية، وقدموا خوفهم على مناصبهم على الالتزام بالمبادئ الأخلاقية التي تحترم حقوق الشعوب وقيم الديمقراطية، ولكن العالم سيتذكر الفلسطينيين ومناضليهم كما يذكر اليوم نيلسون مانديلا ومارتن لوثر كنغ، ولطالما قلنا إن هناك قادة يعطون الأهمية لمناصبهم السياسية، وهناك ساسة يستمدون أهميتهم من مناصبهم الزائلة.

أتمنى لو أن كل من شارك في اتخاذ هذه القرارات المجحفة بحق الفلسطينيين ينظر لصور رزان النجار، وساجد مزهر، المسعفين اللذين استشهدا برصاص الجيش الإسرائيلي وهما يقومان بأنبل عمل إنساني بإسعاف جرحى مصابين، وأن يستمعوا لقصة الطفلة عائشة اللولو المصابة بورم في الدماغ، والتي منع الاحتلال الإسرائيلي أهلها من الوصول للمستشفى الذي كانت تعالج فيه، فتألمت طويلا، وماتت وحيدة، محرومة من حنان أمها ورعاية أهلها.

أيها السادة، لن تكسروا بقراراتكم المجحفة إرادة الشعب الفلسطيني، بل ستزيدون إصراره على الحرية، وستعمقون وعيه بأهمية الاعتماد على النفس، وبحكمته العريقة "ما حك جلدك مثل ظفرك". *الأمين العام لحركة المبادرة الوطنية الفلسطينية