لخياراتنا الكبرى ثمن، نحن ملزمون بدفعه بشكل يومي، خصوصاً تلك التي لا تتواءم ورغبة الأغلبية العظمى ممن يهمهم الأمر، أو ممن لا يهمهم على حد سواء، تلك الخيارات التي تبدأ بـ"لا" الناهية من المحيطين بنا، ولا تنتهي بـ"لا" المشفقة على ظهورنا من هذا الحمل الثقيل، خياراتنا، هذه الخيارات التي نفقد في سبيل الوصول إليها أمنيات أصغر كان بودنا لو تمتعنا بها، ومُتع حياة بسيطة تمنينا لو عشناها، أمنيات أجنحتها بلا ريش، ولكنا تعمدنا ألا نمد أيدينا لو لمجرد المسح على أجنحتها حتى لا تحرفنا عن مسار خياراتنا الكبرى، واخترنا طريقاً لم يكن صديقاً لأقدامنا، ولا ودوداً لأماننا، وتجنبنا طرقاً أخرى تمد لنا أيديها حبالا من الود والورد. طرق ترمي لنا من خلف سلك شائك تعاويذ الأمان وأرغفة السلامة، وعلب ماء بلاستيكية قيل إنها "مقري عليها" لطرد شياطين تمردنا، فلم نلتفت، هذه الخيارات التي تتقن ابتكار حنين يباغت سكينتنا بكابوسٍ يفزّع هدأة الأحلام، وتبتدع مخارج عبقرية للرجوع والتراجع ومساحة للتنازل عن هذه الخيارات أو بعضها على سبيل المساومة!

وتبدأ مرحلة المساومة عندما نشعر أن وعثاء السفر في الطريق الذي اخترناه بدأت تأخذ شيئاً من راحة أرواحنا واطمئنانها في الوقت الذي بدأ يتراءى لنا سوء المنقلب، وعاقبة النكوص، هذه المرحلة تسمى بداية وحام الحمل بالسؤال: ماذا لو؟! ماذا لو أني تنازلت عن هذا كعربون تقارب؟! وماذا لو تنازلت عن ذاك كبطاقة صلح؟! أو ماذا لو أني تخليت عن ذلك كإثبات لحسن النوايا، ويبدأ تقييم التنازلات ونتائجها، وما سيترتب عليها من آثار، إلى أن نصل نحن والذين يعارضون خياراتنا، ممن يهمهم الأمر، إلى الحد المشترك لتقبل تلك الخيارات، أو بالحد الأدنى تأجيل الحكم على نتائجها، وعند الوصول إلى حد من التفاهم تلد إجابة السؤال "ماذا لو" وتضع حملها، لنفتح أبصارنا بعد أن أخذ التعب منا مأخذه في المساومة وما قبلها، لنرى ما الذي تنازلنا عنه؟! وما الذي فرطنا فيه لمجرد أن نبقى تحت السيطرة؟! ما حجم ما قايضنا به من الفضاء مقابل تقديم أجنحتنا على طبق من الفضة؟! بعضنا يكتشف هول ما قدم فقط ليبقى ضمن القطيع المرضي عنه، وبعضنا يعرف أنه قدّم ما يكفي لتناول كأس من المشاعر الودودة بين الحين والآخر لإطفاء ظمأ الشوق أو من باب الحنين، أو ما يكفي لشراء خيمة يقطنها في حديقة صلحه مع الذات! ولكن عند تقييمنا لخسائرنا عند المساومة على خياراتنا، فمن المهم أن نضع نصب قلوبنا أن خسارتنا لذواتنا خط أحمر، وإلا ذهب سدى كل تعب مشوارنا في طريق خياراتنا، وسيكون سوء المنقلب أن نمشي كل هذا الطريق مرة أخرى في طريق عودتنا بعد كل ما عانيناه في طريق ذهابنا فيه، نفس الشوك، نفس الأرض الوعرة، نفس العيون التي كانت ترمي لنا أرغفة السلامة من خلف السلك الشائك، ولكنها ترمي هذه المرة نظرات اللهب! لذا فإن أفضل صفقة قد نحصل عليها عند المساومة على خياراتنا أن نختصر طريق العودة ما أمكن إن كان ذلك ضمن خياراتنا، عن طريق الاحتفاظ بأغلى ما لدينا مقابل "التنازل" عن أسوأ ما فينا، إن خياراتنا الكبرى في الحياة تفضح ذكاءنا، وتعري ملامحنا من الداخل!

Ad