اقترب موعد الوداع، ففي فجر يوم 11 أغسطس 2000، فقد العالم العربي نجماً بارزاً من نجوم الغناء، صاحب الصوت العذب الفنان القدير طلال مداح، إثر نوبة قلبية فاجأته على خشبة المسرح عند تقديمه أغنية «الله يرد خطاك لدروب خلانك»، في حفل غنائي كبير، في إطار مهرجان «أبها» السياحي، بمشاركة عدد كبير من فناني الخليج. ترنح صوته، واختل توازنه، فسقطت من يده الريشة، وحل الصمت في المكان، كأن كلمات أغنيته «زمان الصمت»، الذي ما فتئ يرددها في كل الحفلات الغنائية، تقترب صورها الشعرية مما يجري في آخر لحظات حياة الفنان طلال مداح، وتقول كلماتها: «وترحل... صرختي ... وتذبل

في وادي لا صدى يوصل ... ولا باقي أنين ... زمان الصمت يا عمر الحزن والشكوى ... يا خطوه ماغدت تقوى ... على الخطوه... على هم السنين».

Ad

عقب هذا السقوط، الذي كان يبث على الهواء عبر التلفزيون السعودي، هرع الكثير من الموسيقيين والعاملين في المهرجان إلى طلال مداح لإنقاذه ورؤية ما حصل له، قبل أن يُنقل إلى مستشفى عسير على بعد 300 متر من المسرح، فأدخل العناية المركزية، إلا أن الأطباء لم يتمكنوا من إنقاذه، وتوفي بعد ساعة من وصوله إلى المستشفى، حيث انفرطت أوتار الموسيقى العربية، ولاذت جملها بتخوم الصمت، واتّشحت الساحة الغنائية العربية بالسواد.

كانت لمداح مواقف إنسانية كثيرة، من بينها الموقف الأخير قبل 48 ساعة من رحيله، حين اتّصل به أحد المواطنين من السجن يطلب مساعدته، فسدّد عنه ديونه وأطلق سراحه.

ربما من أبرز الشهادات التي قيلت بحق الفنان الراحل طلال مداح، ويعتز بها كثيرا، هي كلمات موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب عنه، حيث قال: "مداح أحد أجمل الأصوات التي استمعت إليها في الوطن العربي". وهذه الشهادة ليست مستغربة من عبدالوهاب الذي وقع عقداً احتكارياً مع مداح كي لا يغني إلا من ألحانه التي بدأها برائعة "ماذا أقول؟". لكن لم تشأ الأقدار أن يكمل هذا الثنائي المشوار، والذي كان سيقدّم إبداعاً لا حدود له في سماء الأغنية العربية.

رجل الأغنية السعودية

أما الفنان الكبير محمد عبده فقال: "طلال هو رجل الأغنية السعودية الأول، وهو الأصل ونحن نتفرع منه"، في حين قال الشاعر السعودي الأمير بدر بن عبدالمحسن: "أصبح اسم طلال مداح في كل قلب وعلى كل شفة، وتجاوز الفن الغنائي السعودي بفضل صوته حدود الوطن ليصل إلى العالم العربي كلّه. طلال مداح فنان متميز ومدرسة مختلفة عما سبقتها... وقد مرّ الفنان بمراحل عدة ارتفع فيها رصيد نجاحه وتناقص. لكن تميزه وتفرّده ليسا في صوته اللين الدافئ القوي فحسب، إنما في شخصيته البسيطة الطيبة وأفكاره وفلسفته الخاصة".

البدايات الفعلية

الشاعر الأمير محمد العبدالله الفيصل قال عنه: "طلال مداح تاريخ... وكانت البدايات الفعلية لتاريخ الأغنية السعودية على يده، واشتهرت بفضله رغم محاولات من سبقوه".

الشاعر فيصل الفقيه، الذي تعامل مع مداح في الكثير من الأعمال قال عنه: "طلال مداح هو أفضل من غنى شعري، وكان أحد أسباب شهرتي، وهو مؤسس الأغنية السعودية، لأنه أول من خرج عن الإطار. صوته الجميل يشبه العصافير المغردة، وهو إحدى أهم صفات مداح الفنان".

أجمل الأصوات

وقال الفنان والملحن السعودي الكبير الأستاذ غازي علي، الذي تعاون مع مداح في أعمال قليلة منها سلام لله يا هاجرنا، وأسمر حليوة، واسمحولي أقولكم: "طلال مداح عبقري في التلحين، وعبقريته تكمن في بساطة ألحانه وعدم تكلّفها، إذ إنها ترسخ في ذهن السامع، لأنها من روحه كفنان. أما بالنسبة إلى صوته فهو أحد أجمل الأصوات التي سمعتها في حياتي".

التطوير في الموسيقى

بينما قال الملحّن السعودي سامي إحسان: "حمل على كاهله هاجس الأغنية السعودية وتطويرها، ورفض أي مساس بها. إنه إنسان من عهد الطرب الأصيل الذي يلتزم بالإنسان، ويحكي سيرته. يكتب الجملة الموسيقية بكل مشاعره، يسبح في الفن الشرقي. لكنه لا يرفض الفن الحديث والمعاصر. يسعى دائماً إلى التجديد ويعتقد أن الكلمة الشاعرية المتدفقة من أعماق القلب هي التي تحرّك ملكة الإبداع".

الملحّن السعودي صالح الشهري صرّح ذات مرة بأنه كان في اجتماع مع بليغ حمدي، فقال الأخير له إن "أجمل صوتين في تاريخ الأغنية العربية الحديث هما محمد عبدالوهاب وطلال مداح".

وأضاف: "أنا مذهول بهذا الصوت العظيم الذي لا يتكرر، فطلال مداح قمة عالية وإطلالة جميلة للفن العربي الخليجي عموماً، والفن السعودي خصوصاً، وهو أخ لكل من عرفه أو التقاه، ويدخل القلب مباشرة من دون استئذان بصدقه وعفويته وطيبته التي لا حدود لها".

محمد المسباح قال عنه: "أول مرة التقيته كانت في بداية التسعينيات في القاهرة، ومن اللقاء الأول شعرت أنه أستاذ كبير في الغناء والموسيقى وإنسان متواضع يحرجك بمدى احترامه لك وتقديره لكل كلمة يقولها... من صفاته التي لا يشعر بها إلا من عاش الوسط هو ابتعاده عن القيل والقال وكثرة السؤال، وكان يستمتع جداً بنجاح الآخرين".

واعتبر عدد من الفنانين غياب طلال مداح خسارة ليست للفن الخليجي فحسب بل للفن الغنائي والموسيقي العربي، باعتباره أحد القامات المهمة في الغناء العربي الحديث.

سقوط مفاجئ

وكان الفنان الإماراتي عبدالله بالخير من أكثر فناني الإمارات تأثراً بالرحيل المفاجئ للفنان طلال مداح، نظراً لوجوده في أبها ومشاركته الراحل الكبير في افتتاح مهرجان ابها، حيث قدم بالخير الفقرة الأولى في الحفل في نفس الليلة التي شهدت سقوط طلال.

ويقول بالخير: اتفقت مع الراحل على الالتقاء قبيل الحفل لإجراء تنسيق حول ترتيب فقرات الحفل، إذ كان من المقرر أن يفتتح طلال مداح الحفل، لكن ضيق الوقت وانشغال كل منا بإجراء البروفات، حال دون اللقاء، وتولت إدارة المهرجان ترتيب الفقرات، وتم اختياري للافتتاح وطلال مداح للختام.

ويضيف بالخير أنه شاهد سقوط طلال على خشبة المسرح، وهو في استديو التلفزيون السعودي الذي استضافه عقب انتهاء فقرته الغنائية، وظن في البداية أن هذا السقوط المفاجئ نتيجة وعكة بسيطة، ولم يتوقع أن تكون نهاية أحد أهم المطربين العرب في العصر الحديث.

ويصف بالخير الراحل الكبير الذي التقاه في أكثر من مناسبة بأنه أكثر الفنانين الخليجيين صدقاً في أحاسيسه، وله أسلوب مميز وبسيط في الغناء، مما أكسبه حب الجماهير في كل أرجاء الوطن العربي، كما أن التزامه بالفن العربي الأصيل جعل منه علماً موسيقياً مرموقاً، والدليل على ذلك الترحيب الجماهيري الذي لقيه لحظة صعوده على خشبة المسرح في حفلته الأخيرة، ووقوف جميع الحضور والتصفيق المتواصل الذي استقبله به الجمهور، وكأنهم على علم بأن الراحل الكبير سيختتم مشواره الفني هذه الليلة، فلقي منهم التقدير الذي يستحقه.

الشاعر الإمارتي سالم سيف الخالدي قال والدموع تغالب عينيه، إن غياب طلال يعد خسارة كبيرة للفن العربي، وإن حالة حزن شديدة انتابته لدى سماعه النبأ، وخاصة أنه يعرف الراحل عن قرب، ويعرف مدى انسانيته وبساطته وحبه لكل الفنانين، فقد كان يعتبر نفسه أباً وأخاً كبيراً لكل الفنانين الخليجيين الشباب.

ويضيف الخالدي: انه كان من المقرر ان يلتقيا في غضون الايام القادمة، لترتيب تعاون فني بينهما، كانا قد اتفقا عليه عبر الهاتف قبل أسبوع واحد من وفاة طلال.

وطالب الخالدي الفنانين الخليجيين الشباب باتخاذ سيرة الفنان الراحل منهجاً في مشوارهم الفني، لما تتميز به هذه السيرة من اجتهاد وصدق في التعامل وصدق في العطاء والتزام بالأصالة، اضافة الى الطيبة والحنان والاخلاق الرفيعة التي كان يتمتع بها طلال مداح.

الفنانة الاماراتية سمر سعيد عبرت عن حزنها الشديد، كون القدر لم يمهلها للالتقاء بالفنان طلال، وذكرت أنها كانت تتمنى أن تلتقي الفنان الراحل، منذ أن احترفت الغناء في بداية هذا العام، وكانت تتمنى الفرصة للفوز منه بلحن يتوج انطلاقتها الفنية، وخاصة أن أسلوبه المميز في الموسيقى والاداء، يشكل منهجاً للعديد من الفنانين الخليجيين الناجحين.

وقالت الفنانة سمر إن فناناً بحجم طلال مداح سيبقى علماً مهماً في تاريخ الفن العربي، لأنه من أوائل من أسسوا للأغنية الخليجية بملامحها ومواصفاتها الحالية، وأول من ساهم في نشرها على مستوى الوطن العربي، عبر الأعمال العظيمة التي قدمها خلال سيرته الطويلة، والتي استمرت أكثر من ثلاثين عاماً، اضافة الى مساهماته المهمة في ابراز عدد من الاصوات الخليجية، والتي يتربع بعضها على قمة الهرم الغنائي الخليجي كالفنان محمد عبده.

موسيقى من طراز خاص

الملحن الاماراتي ابراهيم جمعة وصف الراحل طلال مداح بأنه إضافة إلى صوته الرائع المعبر فهو موسيقي من طراز خاص، إنه أقدر الفنانين العرب على فهم واستيعاب الكلمة وإعطائها الحس الموسيقي الملائم لمعناها وقوة تعبيرها، وأن غيابه يعد خسارة للفن الغنائي العربي، لا سيما أن طلال مداح هو أول مطرب عربي يسقط وهو يغني وحاضناً عوده بحرص شديد، وهذه إشارة إلى عشقه الأبدي للموسيقى، والموسيقى تحديداً لأنه من الفنانيين القلائل الذين لم يلهثوا وراء المكاسب المادية الزائلة، والبهرجة الزائفة، وبقي حتى آخر رمق يقدم عشقه بنفس الصدق الذي انطلق به قبل أكثر من خمسة وثلاثين عاماً، ولم يعرف في حياته الأساليب الملتوية التي تبعد الفنان الحقيقي عن فنه وتأخذه إلى عالم مختلف لا يليق بفنان قدير كطلال مداح.

غنّى للكويت إبان الغزو العراقي في دار الأوبرا المصرية بلا مقابل

كان الراحل طلال مداح يحب الكويت وشعبها، وصرح أكثر من مرة عن مكانة الكويت في قلبه، إضافة إلى ريادتها بمنطقة الخليج، وكان الراحل معجباً بالأغنية الكويتية ويصفها في حواراته الصحافية ومقابلاته التلفزيونية بأنها أغنية أصيلة وقديمة ولها طابعها المميز، وأنا أحد أشدّ المعجبين بها.

أما عن المطربين الكويتيين فكان يقول: "مطربو الكويت يكفي أنهم واضحون كل الوضوح على الساحة، وجادون في أعمالهم. وأعمالهم لائقة جداً، ولائقة بتاريخ الأغنية الكويتية. ونحن من جمهور الأغاني الكويتية، ويكفي أن بعضها نتعلّم منه ما كان يُخفى علينا في زوايا الفن... ولا ننسى أنهم كانوا واضحين في مجال الفن قبل الفن السعودي".

وعن مواقفه الداعمة للكويت، يقول الشاعر الكبير عبداللطيف البناي: "لم أصادف في حياتي رجلاً بأخلاق وشهامة طلال، وأذكر موقفه أثناء الغزو العراقي للكويت فقد غنى في دار الأوبرا بمصر من أجل القضية الكويتية، ولم يطلب مقابلاً... كان رحمه الله يميل إلى الهدوء، ولا يثير الزوابع والمشاكل، ولا يلجأ إلى المهاترات، وله قلب كبير".

وقال الفنان صالح الحريبي: "لا يمكن أن أنسى موقف طلال البطولي حينما حضر إلى مصر للمشاركة في الأوبريت، مع أن حالته الصحية لم تكن جيّدة. كان رجلاً بقدر الرجال... وذا إحساس مرهف، وصاحب نكتة على رغم الحزن الذي يلفّ حياته".

انسداد في الشرايين وصمامات القلب

لم يكن طلال مداح يأبه بتحذير الأطباء له بعدم الغناء، والمكوث في البيت أطول فترة، وتجنب بذل الجهد الكبير، وكانت آخر رحلاته العلاجية في لندن في صيف 1998، حيث أمضى فترة نقاهة هناك، بعدما أُجريت له جراحة قسطرة في مستشفى "ولنغتون" تكلّلت بالنجاح، لأنه حسب تشخيص الأطباء، كان يعاني منذ مدة انسداداً في ثلاثة شرايين، وانسداداً في صمامات القلب، مما كان يسبّب له تعباً كبيراً.

وعبّر مداح عن شعوره بعد خروجه من المستشفى معافى بقوله: "لا يشعر الإنسان بمحبة الآخرين، ووفائهم إلا عندما يتعرّض لعارض، أو حين تحلّ به مصيبة. حينما أُجريت لي جراحة في لندن شعرت بزخم هائل من جمهوري وأصدقائي، مما كان له كبير الأثر في تخفيف آلامي ورهبة الدخول إلى غرفة الجراحات".

وأضاف "قد أثلجت صدري زيارة أصحاب السمو الأمراء لي، إضافة إلى الزيارة التي قام بها زميلي الفنان محمد عبده، الذي حضر إلى لندن خصوصاً لأجلي، فكان لزيارته وقع في نفسي، لا سيما أنه وقف إلى جانبي أثناء إجراء الجراحة".

واتسمت الأعوام الأخيرة في حياة الراحل بالمشقة، لأنه كان يعاني متاعب في القلب، وقد لاحظ المقرّبون منه انخفاضاً في ضغط الدم، ونقلوه إلى المستشفى قبل يوم من الحفلة الأخيرة، فنصحه الأطباء بعدم الغناء لكنه أصرّ على ذلك.

في يوم وفاته نفسه، نُقل جثمان مداح للصلاة عليه في المسجد الحرام بمكة المكرمة، ودُفن في مقابر المعلاة في المدينة نفسها في موكب مهيب، حيث احتشد لوداعه الآلاف من عشاق فنه وأصدقائه وأقاربه وعدد كبير من رجالات الدولة، وسيطر الحزن على الشارع السعودي، خصوصاً بعدما شاهد الناس لحظات سقوطه الأخير على خشبة المسرح، والتي نقلها التلفزيون السعودي على الهواء مباشرة.

وستظلّ لصوت مداح وفنّه مكانة متميّزة على خريطة الغناء العربي لا يمكن مقارنتها بعطاء آخر، ويبقى الرائد والممهّد لفتح الطريق أمام أصوات غنائية كثيرة في المملكة العربية السعودية.

آخر أغنية شدا بها الراحل

كانت آخر أغنية شدا بها الفنان طلال مداح قبل وفاته هي "الله يرد خطاك"، وتقول كلماتها:

الله يرد خطاك لدروب خلانك

لعيون ما تنساك لو طال هجرانك

دام الأمل موجود فالنفس خضاعه

حق العيون السود السمع والطاعة

***

الله يردك لي يا مطول غيابه

يا معذبي هجري مدري وش أسبابه

دام الأمل موجود فالنفس خضاعه

حق العيون السود السمع والطاعة

***

كانك سمعت الناس صدقت بي عاذل

عني اسأل الإحساس ان كنت بي جاهل

دام الأمل موجود فالنفس خضاعه

حق العيون السود السمع والطاعة

***

ياللي بعدك اليوم تبكي على باكر

صبري عليك يدوم ما دمت أنا فاكر

إن الأمل موجود والنفس خضاعه

حق العيون السود السمع والطاعة