بدا الظهور المفاجئ لزعيم تنظيم داعش أبو بكر البغدادي في شريط مصوّر أخيراً أشبه بعودة إلى منتصف العقد الماضي، أما وجه الاختلاف الأكثر وضوحاً بين هذا الشريط والتسجيلات التي اعتاد أسامة بن لادن استخدامها ليذكّر أنصار تنظيم القاعدة بأنه ما زال حياً ويقنعهم بأنه ما زال مهماً، فهو جلوس البغدادي، الذي شوهد آخر مرة في عام 2014، على أرض ما بدا غرفة جلوس مليئة بالأثاث لا كهف.

يبدو اليوم أن الولايات المتحدة بلغت مرحلة من سأم الإرهاب، إذ تبرز هذه النقطة جلياً من خلال وثائق وزارة الدفاع الاستراتيجية الأحدث التي اعتبرت منافسة الصين وروسيا الاستراتيجية الأولية العسكرية الأميركية الأهم لا مكافحة الإرهاب. في هذه الأثناء، صرّحت إدارة ترامب بوضوح أنها لا تنوي قيادة الجهود لإعادة إعمار المناطق المحررة من داعش، فمع إنزال الهزيمة بهذا التنظيم في ساحة القتال يكون عمل وزارة الدفاع الأميركية قد انتهى.

Ad

يظهر هذا التناقض جلياً لكل مَن تابع عن كثب المناظرات الداخلية التي شهدها الجيش الأميركي خلال منتصف العقد الماضي وأدت إلى زيادة عدد الجنود في عام 2006 خلال ذروة الاحتلال الأميركي وحملة مكافحة التمرد في العراق.

رد الجيش الأميركي بقيادة ديفيد بتريوس في النهاية بتبني مقاربة مكافحة تمرد جديدة في العراق لم تبدّل العمليات التكتيكية فحسب بل الأهداف الاستراتيجية أيضاً. عمدت مكافحة التمرد هذه التي ارتكزت على السكان إلى تحديد السكان المحليين لا المقاتلين الأعداد، معتبرة إياهم محور كل العمليات العسكرية. وأدت هذه الخطوة إلى اعتماد مقاربة تشمل الحكومة بأكملها وتضم مشاريع تنمية وإعادة إعمار هدفها المساهمة في إعادة تأمين الخدمات والبنى الاجتماعية التي دمرتها العمليات القتالية. إذاً، عنى الانتصار في الحرب الانتصار في المنافسة للفوز بولاء السكان. واعتُبرت الحوكمة الجيدة والشرعية مهمة في تحديد أهمية الانتصار في المعارك وإنزال الأضرار بالأعداء.

لكن بروز أنصار عملية مكافحة التمرد هذه التي تمحورت حول السكان لم يخلُ من الجدل، فقد شدد منتقدوها على أن التركيز على مقاربة مكافحة التمرد هذه في الشراء، والتدريب، والعمليات قد يحد من قدرة الجيش الأميركي على تنفيذ حرب تجمع أسلحة عدة ضد عدو تقليدي، أي الصين. في المقابل، أكّد مؤيدوها، بمن فيهم وزير الدفاع آنذاك روبرت غيتس، أن إلحاح الحاجة في العراق وأفغانستان يفوق بأهميته الحالات الطارئة المستقبلية المحتملة. وواصلوا مشددين على أنك تخوض الحروب التي تواجهها الآن لا تلك التي قد تنشب لاحقاً.

شكّلت حرب التجاذب بين "مقاربة مكافحة التمرد هذه والمقاربة التقليدية"، التي دارت في أواخر العقد الماضي، الحلقة الأخيرة في تاريخ الجيش الأميركي الدوري الطويل مع عمليات مكافحة التمرد، التي تملك أسماء عدة مثل الحروب الصغيرة، والحروب غير التقليدية، أو الحروب غير المتوازنة. فقد اعتاد الجيش الأميركي تطبيق هذه العمليات عندما ينشأ التمرد لينسى بعد ذلك الدروس العملية التي تعلمتها حين تنتهي حاجته إليها. وكما أشار بتريوس وغيره من أنصار هذه المقاربة في عام 2006، كانوا يعملون فحسب على تحديث ونفض الغبار عن عقيدة تعلمها الجيش الأميركي وطبقها في فيتنام في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي وفي أميركا الوسطى في الثمانينيات، هذا إن لم نتحدث عن الفلبين في القرن العشرين، إلا أنه تخلى عنها بعد ذلك بسبب الإخفاقات العسكرية والمعنوية في تلك الصراعات.

يعكس رفض مقاربة محاربة التمرد هذه بالنسبة إلى الجيش الأميركي ميله التاريخي إلى مبادئ الحرب التقليدية الأكثر وضوحاً وحسماً، حيث يمكن تمييز المنتصر والخاسر بين الخصوم المسلحين بشكل جلي، مفضلاً إياها على نتائج مكافحة التمرد الأكثر نعومة التي تُحدَّد سياسياً. أما بالنسبة إلى الناخبين الأميركيين، فيعبّر رفضها عن الاستياء والغضب على مر عقدين من الخسائر في الأرواح، والموارد، والقوة في السعي وراء مغامرة غير مدروسة افتقرت إلى الموارد الضرورية وحظيت بترويج مبالغ فيه.

ولكن إذا توقفت الولايات المتحدة عن مكافحة الإرهاب، لا نعرف يقيناً ما إذا كان العكس صحيحاً، كما أوضح إعلان البغدادي المصوّر. بغض النظر عن الجدال الدائر حول مدى فاعلية مقاربة مكافحة التمرد، فلا شك أن الجيل التالي من المتطرفين العنيفين سيستمد الإلهام من أنقاض الحروب التي قادتها الولايات المتحدة ضد داعش، هذا إن لم ينشؤوا منها مباشرةً. علاوة على ذلك، حتى لو عجز تنظيم داعش عن شن اعتداءات ناجحة ضد الولايات المتحدة وأوروبا الغربية، تبرهن تفجيرات عيد الفصح في سريلانكا مدى قدرة هذا التنظيم وأتباعه على زعزعة دول خارج الغرب بسهولة.

إذاً، لم تتراجع من نواحٍ عدة أهمية المنطق الذي يوجّه مكافحة التمرد، فمن الممكن للحوكمة العنيفة أن تدفع بالمعاناة الشعبية إلى تخطي حد العنف، في حين تقدّم الدول الهشة والمساحات غير المحكومة أرضاً خصبة تتكاثر فيها المجموعات المتطرفة. صحيح أن مكافحة التمرد لم تحل هذه المشاكل، إلا أن تجاهلها لن يؤدي إلى اختفائها أيضاً.

* «غودا غرانشتاين»