تذوق الفنان طلال مداح طعم الحرمان المر منذ نعومة أظفاره، فقد كُتب عليه أن يفقد والدته عقب فترة وجيزة من ولادته، فلم تهنأ بوليدها الذي انتظرته طويلاً، ولم تحمله بين ذراعيها لتغني له وتداعبه قبل النوم وفي أثناء الرضاعة، وفي الوقت ذاته لم يعش الطفل الصغير هذه اللحظات مع والدته الحقيقية، فكان يختزن كل هذه الأمور في تكوينه الشخصي... ولما أحكمت الظروف قسوتها، قرر والده السفر إلى مكان آخر، فعهد به إلى خالته، وعاش الوليد في كنفها بمكة المكرمة يلعب ويلهو بأزقة هذه المدينة العريقة، حيث البساطة والأصالة.

وحينما بلغ الرابعة التحق الطفل النحيل بكتاتيب الحرم المكي، باحثاً عن الاستزادة من العلم ومرافقة أقرانه في الحي، لكن الطفل الصغير شنف آذانه صوت المشايخ وهم يقرأون آيات من القرآن الكريم، فكان ينصت لهم بكل اهتمام، وعقب عام اضطر والده (زوج خالته) إلى السفر، تلبية لأوامر مرؤوسيه بضرورة الذهاب إلى الطائف، حيث كان يعمل جزاراً في القوات المسلحة، وانتقل طلال مع أسرته إلى مدينة الثقافة والفنون.

Ad

التحق الصغير بمدارس الطائف وتدرج فيها، وأثناء تحصيله العلمي اكتشف أساتذته حلاوة صوته ونقاوته، فأوكلوا له مهمة تقديم فقرات احتفالات المدرسة آنذاك، واشتهر طلال بين أقرانه بجسمه النحيل ونظارته السميكة وابتسامته التي يختبئ خلفها خجله.

«الجريدة» تستذكر الراحل طلال مداح، مع اقتراب نحو عشرين عاماً على غيابه، مسلطة الضوء على أبرز المحطات في حياته الأسرية والفنية.

أبصر الفنان طلال مداح النور في مدينة مكة المكرمة في الخامس من أغسطس من عام 1940، وتحديداً بحي جياد، واسمه الكامل طلال بن عبدالشيخ بن أحمد بن جعفر الجابري، لكنه اشتهر بطلال مداح، وهذا اللقب اكتسبه من زوج خالته علي عبدالحميد مداح الذي اضطر إلى تسجيله باسمه في الأوراق الرسمية، ليتمكن الطفل من الالتحاق بالمدرسة، لأن والده الحقيقي لم يكن قد حصل على الجنسية السعودية آنذاك.

غياهب الانكسار

جاء طلال محملاً بالشجن، فكانت صرخاته تجوب وديان مدينة مكة، يشتكي من فقد والدته التي استعجلت الرحيل، فلم تمهلها الأيام رؤية ابنها وهو يكبر بين ذراعيها، فتركت وليدها يواجه مصيره المجهول، فيحتضن طلال صرخته ويلازمه الأنين، لم يكن وقتذاك يعرف حجم مأساته وما الذي ستغرسه المعاناة في نفسه وتكوين شخصيته، عاش الصغير في كنف خالته فـ "المقادير" كتبت على قلبه العنا، لكن إصراره يدفعه إلى المضي قدماً في حياته في درب الوجع متجرعاً مرارة الظروف القاسية وآلم الفراق اللعين.

لم يكن فراق والدته هو نهاية مأساته، بل كان الرحيل قاسياً جداً في هذا التوقيت، فكان رحيلها الحدث الأكثر إيلاماً في حياته، حيث استمرت معاناة الطفل الوليد مع مصاعب الحياة وقسوة الظروف، فكلما هزت رياح الألم مشاعره قذفته في غياهب الحسرة والانكسار والأنين.

الحرمان والتنقل

وعقب مصابه بوالدته الذي فطر قلبه، قرر والده السفر إلى مكان آخر بحكم عمله في سقاية الماء بمكة، فعهد بالصغير إلى خالته وزوجها علي عبدالحميد مداح، ومضت الأعوام والطفل يكبر.. ويكبر معه الحرمان من الأب والأم، وفي حي جياد يسير الطفل في دروب الحياة ضمن ظروف متقلبة وإمكانات قليلة.

وبعد ذلك انتقل طلال مع أسرته إلى مدينة الطائف، وسكن في منطقة باب الريح ثم حي الشرقية، وكان هذا الانتقال بسبب ظروف العمل آنذاك، إذ اضطر زوج خالته إلى السفر من مدينة مكة إلى الطائف، تنفيذاً لرغبة المسؤولين بالذهاب مع القوات المسلحة، حيث كان يعمل جزاراً.

الأغنية الأولى لصوت الأرض «شفت القمر في المرايا»

تعد أغنية "شفت القمر في المرايا" أول أغنية أداها الفنان طلال مداح، وهي من ألحانه ايضاً ومن كلمات الشاعر عبدالرحمن بن سعود، ولم تسجل هذه الأغنية التي ظهرت الى النور في عام 1958 في الإذاعة أو التلفزيون، بل غناها صوت الأرض خلال إحدى الجلسات، ومن الطريف أنه في إحدى المرات سئل عن هذه الأغنية خلال استضافته في برنامج تلفزيوني، فأجاب الفنان طلال مداح أنه نسي الأغنية برمتها، ولم يعد يتذكر كلماتها وكذلك اللحن.

وتقول كلمات الأغنية:

"شفت القمر في المرايا .. شفته وهوا ورايا

وازداد شوقي وحبي .. من يوم حط العبايه

يا ليت ما هو معاهم .. ولا يجي هو معايا

أنا عليل متيم .. وانتم شفايا ودوايا

مظلوم انا من هواكم .. لله بأقدم شكايا

واقول ظبي رماني .. من غير ذنب وجنايه

الله بحبه بلاني .. واعطاني حسنا كفاية

افديك انا يا حبيبي .. ترحمني.. تجبر كفاية

عذوبة الصوت

التحق طلال بالمدارس الحكومية بمنطقة الطائف، حاملاً اسم زوج خالته علي مداح لعدم حصول والده الحقيقي آنذاك على الجنسية السعودية، فاضطر علي مداح لضمه إليه وتسجيله باسمه في الأوراق الثبوتية، ليتمكن الصغير من الانضمام إلى المدرسة السعودية الابتدائية، ومضى الصغير يسير قدماً في دروب الحياة الوعرة، متأقلماً معها بكل إرادة وتصميم، فلم يمنعه فقد والديه من الاستمرار في مشواره، ولم يشكل ذلك عقبة سلبية تؤثر في شخصيته، بل كان دافعاً له إلى مواصلة المشوار بكل إصرار وعزيمة.

الدروب الوعرة

تحلى الصغير بالصبر والجلد والمثابرة، فلم يمنعه جسده النحيل من التميز بين أقرانه، ولم يثنه ضعف البصر من نفاذ البصيرة، فكان يحول الظروف الصعبة إلى دوافع تمنحه القوة والإصرار والعزيمة، وحقق طلال بعض أحلامه، فكان الطالب المحبب لدى الإدارة، فعذوبة صوته جعلته مقدم فقرات أي احتفال تنظمه المدرسة، وأصبح الطفل النحيل مشهوراً بين أقرانه، ومقرباً من الأساتذة، ومع مرور الوقت أصبح طلال قارئ القرآن في المدرسة، واستفاد الكثير من هذه المرحلة، فقد منحته الثقة بالنفس وقوة الشخصية والقراءة المتأنية، والقدرة على الفعهم والاستيعاب بشكل أكبر، إضافة إلى اكتسابه صفات أخرى تتعلق بالقراءة والتجويد والقدرة على التلوين في الأداء، وساهم هذا التدريب في صقل الفنان الصغير وتدعيم موهبته وجمال صوته.

تدريب ذاتي

ومع مرور الوقت تعرف طلال على أحد الأصدقاء في المدرسة، وكان يدعى عبدالرحمن خونده، وعقب توطد العلاقة بينهما أخبر عبدالرحمن صديقه أنه يملك آلة عود، وهو يحب العزف والغناء، لكن تواجهه مشكلة كبيرة، حيث ترفض أسرته اتجاهه إلى العزف أو الغناء، وحينما وجد تفاعلاً من زميله طلال اقترح عليه أن يضع آلة العود في عهدته وفي بيته، وحينما يريد عبدالرحمن العزف أو التدرب يأتي إلى طلال ويمضيان جزءا من الوقت بالعزف، وكان حينها عبدالرحمن هو الذي يعزف فقط، وكان طلال جليسه فقط، ومع مرور الوقت، انتبه طلال إلى ما يجري من حوله، فآلة العود متوافرة لديه، وعبدالرحمن لا يستخدمها إلا إذا سنحت له الفرصة، فتبادر إلى ذهنه أن يتعلم العزف، وبدأت أنامله تداعب العود، وفي كل جلسة تدريب يتعلم طلال شيئا مفيداً، ومن خلال التدريب الذاتي بدأ يعزف، فتعلم من العزف النشاز الوصول إلى الإتقان، واستفاد من التدريب المكثف التعرف على قدرات هذه الآلة ونغماتها، في حين كان يعزف عبدالرحمن وينصت له طلال، وفي إحدى المرات بدأ طلال يغني بمصاحبة عزف عبدالرحمن، فوجد الأخير أن طلال لديه قدرة على الأداء المتزن، إضافة إلى جمال الصوت وعذوبته، وحين اقترب طلال من العاشرة من عمره بدأ يتقن أغاني كبار المطربين العرب فريد الأطرش ومحمد عبدالوهاب وأم كلثوم وغيرهم من النجوم في السعودية أو في مصر توثقت العلاقة بين طلال وعبدالرحمن واستمرا معا لفترة طويلة.

بداية شاقة وطريق طويل

فيما يتعلق بالظروف التي عاشها طلال منذ والدته، قال في أحد حواراته أنه بدأ كأي هاو من هواة الفن في زمن لم يكن سهلاً فيه التعبير عن المشاعر والأحاسيس. البداية كانت صعبة وشاقة وطريقها طويل.. انطلقت من المدرسة في الطائف، وحصلت على الثانوية التي كانت تسمى "الكفاءة"، كنت من محبي الاستماع إلى الموسيقار الراحل محمد عبدالوهاب والعندليب الأسمر عبدالحليم حافظ والفنان الكبير وديع الصافي، وبعض الفنانين المحليين غير المنتشرين بشكل كبير آنذاك بحكم عدم وجود الشاشة الصغيرة وغياب الإعلام الذي يخدم اليوم الفن والفنان، حتى إن ممارسة هواية العزف على العود علناً كانت محفوفة بالصعوبات، نظراً للظروف التي كانت تحول دون رغباتنا بخطوات فنية جريئة، وبالرغم من هذا استطعت أن أشق طريقي".

وعن هذه الفترة كان الراحل طلال مداح يقول إنه نشأ في بيئة فنية، فكان والده يجيد العزف على آلتي المدروف والسمسمية، ووالدته كانت تجيد العزف على بعض الآلات الأخرى، وكان لهذه البيئة الفنية الأثر الكبير في تكوينه الشخصي، إذ بدأ يعشق الفنون ويحب الغناء والعزف، كما أن ثـمة ظروفا لم يكن رتب لها الطفل، حيث تعرف إلى أحد الأصدقاء في المدرسة، وكان يهوي العزف، ونظراً لعدم تقبل الأسر مسألة اتجاه أولادهم إلى الغناء أو العزف، كان صديقه عبدالرحمن خونده مغرماً بالعزف على العود، وكان يمتلك آلة جميلة، لكنه واجه معضلة، حيث كان يخشى أن تعلم أسرته بقيامه بالعزف على آلة العود، إضافة إلى امتلاكه العود، لذا اضطر عبدالرحمن إلى وضع العود في بيت زميله طلال، وكلما أراد العزف أو التدريب طلب عبدالرحمن من طلال إحضار العود معه، وعقب انتهاء فترة العزف والتدريب يتركه عند طلال، لم يجد عبدالرحمن صديقاً أميناً مثل طلال، فكان مثالاً للصدق والنزاهة، واستمرت الحال لفترة طويلة، ونظرا لعشق عبدالرحمن لآلة العود بدأ يتدرب على يد أحد الأساتذة، فكان طلال شاهداً على هذه المراحل، وحين يجلس عبدالرحمن وطلال معاً يعزف عبدالرحمن ما تعلّمه من أستاذه وكان ما يجري تدريب لهذا الطفل الصغير.

ومع مرور الوقت، استطاع طلال إتقان العزف على العود، مستفيداً من توافر الآلة في بيته، فكان يعزف في الصباح وفي المساء، فيخطئ ويصوب أخطاءه بنفسه، ثم يأتي عبدالرحمن ويعزف أمامه طلال إلى أن تفوق طلال بالعزف على عبدالرحمن.