أحيا الجورجيون في التاسع من أبريل عام 2019 الذكرى الثلاثين لمحاولة الكرملين قمع المتظاهرين السلمين في تبليسي، ففي ذلك اليوم من عام 1989 قتل الجنود السوفيات 21 متظاهراً شاباً مستخدمين الفؤوس بدل الرصاص، في حين تعرض مئات آخرون لإصابات بسبب الغاز السام.

شكّل هذا «ربيع براغ» في جورجيا، بما أنه ذكّر بالقمع الذي تعرّض له المتظاهرون في هنغاريا في عام 1956 وتشيكوسلوفاكيا في عام 1968. هذان الحدثان الأخيران محفوران في وعينا الجماعي في الغرب، وقد أنبأ ببداية نهاية الاتحاد السوفياتي، ولكن يجب ألا ننسى أيضاً القمع في تبليسي، إلا أن ضغط موسكو المميت على جورجيا ما زال مستمراً حتى اليوم، ويتطلب رداً غربياً أكثر قوةً.

Ad

في 12 مارس عام 2019، أعادت السلطات في إقليم أبخازيا، منطقة في جورجيا تحتلها روسيا، جثة إيراكلي كفاراتسخيليا، مواطن جورجي في التاسعة والعشرين من عمره، إلى عائلته، وظهرت على جسم كفاراتسخيليا كدمات عدة وعلامات تعذيب جسدي، ولقي هذا الشاب حتفه عندما كان في عهدة قاعدة عسكرية روسية في ناباكافي بأبخازيا المحتلة.

ادعت السلطات الأبخازية أن كفاراتسخيليا انتحر مستخدماً ملابسه الخاصة بعد اعتقاله بتهمة «عبور الحدود بطريقة غير مشروعة». صحيح أن سبب وفاة كفاراتسخيليا الفعلي لم يُحدد بعد، إلا أن نقطة واحدة تتجلى بوضوح: ما كان ليموت لو لم تنتزع روسيا منطقته من جورجيا في المقام الأول.

يُعتبر كفاراتسخيليا رابع مواطن جورجي يموت أثناء الاعتقال في إقليمَي أبخازيا وجنوب أوسيتيا اللذين تحتلهما روسيا منذ عام 2008، حين بسطت روسيا سيطرتها على هاتين المنطقتين واعترفت بهما كدولتين مستقلتين. دان الكونغرس الأميركي موت الثلاثة الأوائل في قرار مجلس النواب 598 في شهر يناير عام 2019، الذي أشار أيضاً إلى أعمال «الاعتقال، والخطف وانتهاكات حقوق الإنسان الأخرى المتواصلة التي تُركتب في الإقليمين الجورجيين أبخازيا ومنطقة تسخينفالي/جنوب أوسيتيا الخاضعين بالقوة للاحتلال الروسي». تشير الحكومة الجورجية أيضاً إلى أن السلطات المحلية المدعومة من موسكو اعتقلت أيضاً 327 مواطناً جورجياً بين عامَي 2017 و2019 «لعبورهم الحدود بطريقة غير مشروعة».

يرجع احتلال روسيا وأبخازيا وجنوب أوسيتيا إلى الحرب الروسية-الجورجية عام 2008، التي دخلت خلالها القوات الروسية الأراضي الجورجية، مستخدمةً الدبابات والمعدات الثقيلة، وتقدمت نحو تبليسي لتنسحب بعد ذلك إلى المناطق المحتلة حالياً وتترك قواتها فيها، وأدى الاتحاد الأوروبي، الذي كان يرأسه حينذاك نيكولا ساركوزي، دور الوسيط في وقف لإطلاق النار دعا إلى السماح للمساعدات الإنسانية بالدخول بحرية، وسحب قوات الطرفين، وعقد مفاوضات دولية في جينيف تتناول أمن هذين الإقليمين واستقرارهما.

ولكن رغم مرور أحد عشر عاماً على الحرب، لم تطبق روسيا بعد شروط ذلك الاتفاق بالكامل. فرغم بنوده، اعترفت روسيا بهذين الكيانين كدولتين مستقلتين (سورية، وفنزويلا، ونورو، ونيكاراغوا الدول الوحيدة التي اعترفت أيضاً باستقلالهما)، كذلك لم تؤدِّ صيغة المفاوضات الدولية حتى اليوم إلى أي تقدّم ملموس في استرجاع وحدة الأراضي الجورجية.

يُعتبر اعتداء روسيا ضد جورجيا غالباً السابقة التي مهدت لغزو روسيا وأوكرانيا واحتلالها أجزاء منها عام 2014، ولكن في حالة أوكرانيا، جار رد فعل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي قوياً، معلنين أنهما لن يعترفا بتغيير الحدود بالقوة، وفرضا عقوبات على روسيا لحين تطبيق إطار عمل مينسك للسلام وإعادة كل الأراضي إلى السيادة الأوكرانية.

بخلاف عملية السلام الجورجية المجمدة، تكثر الصيغ الدبلوماسية الرفيعة الشأن للتعاطي مع الحرب في أوكرانيا، رغم أنها لم تؤدِّ بعد إلى نتائج مهمة، وتشمل هذه الصيغ مجموعة الاتصال الثلاثية في مينسك، وصيغة النورماندي، والجهود الدبلوماسية الثنائية التي تبذلها الولايات المتحدة ودول أوروبية فردية.

صحيح أن بوتين لم يوقّع قانوناً يجعل أبخازيا وجنوب أوسيتيا رسمياً جزءاً من دولة روسيا الفدرالية (كما فعل لاحقاً في حالة القرم)، إلا أن هذين الإقليمين الجورجيين باتا اليوم جزءاً لا يتجزأ من بنى الدفاع، والأمن، وضوابط الحدود، والجمارك الروسية على أساس ما يُدعى «اتفاقات ثنائية». كذلك من الضروري أن ينال اختيار قيادتهما السياسية موافقة روسيا، فضلاً عن أن اقتصادهما يقوم على روابطهما مع روسيا.

يشكّل غياب العقوبات اختلافاً أساسياً في رد فعل الغرب تجاه أزمتَي جورجيا وأوكرانيا، وعندما غزت روسيا أوكرانيا في عام 2014، فرض الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة عقوبات على روسيا بسبب سلوكها الانتقامي: ضمُّ موسكو المزعوم لشبه جزيرة القرم، وغزوها شرق أوكرانيا، وإخفاقها في تطبيق اتفاقات مينسك، إلا أننا لم نرَ عقوبات مماثلة عند غزو روسيا الأراضي الجورجية واحتلالها 20% منها.

آن الأوان ليقوم الغرب اليوم بما لم يفعله عام 2008: زيادة الضغط على روسيا بسبب احتلالها جورجيا، تماماً كما فعل مع أوكرانيا. يجب أن تشكّل مطالبة روسيا بتطبيق اتفاقها مع جورجيا لعام 2008، مع التلويح بالعقوبات إن لم تنصع، خطوة مهمة لكي تضغط الدول الغربية على الكرملين. علاوة على ذلك، بما أن الاتحاد الأوروبي كان وسيطا لوقف إطلاق النار، ينبغي أن يؤدي دوراً خاصاً في الإصرار على تطبيق شروط الاتفاق.

بذلت الرئيسة الجورجية سالومي زورابيشفيلي خلال زيارة أخيرة إلى فرنسا جهوداً لتحقق هذا الهدف بالتحديد، فشكرت الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على الدور الذي أدته فرنسا في الوساطة للتوصل إلى وقف لإطلاق النار عام 2008، وفي المقابل، شدد ماكرون على التزام فرنسا بوحدة أراضي جورجيا ضمن حدودها المعترف بها دولياً، وحض روسيا على الوفاء بالتزاماته الدولية.

ولا شك أن صدور تصريحات مماثلة لتصريح ماكرون عن ألمانيا، وبريطانيا، وإيطاليا، والولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي يبعث برسالة قوية مفادها أن المجتمع الدولي لم ينسَ انتهاك روسيا المستمر لبنود اتفاق وقف إطلاق النار وإخفاقها في احترام وحدة أراضي جورجيا.

ولا شك أن درب استعادة جورجيا سيادتها ووحدة أراضيها سيكون طويلاً، لكن الرئيسة زورابيشفيلي مصيبة في جهودها لإعادة تركيز الانتباه على هذه القضية، ففي زمن تتصرف فيه روسيا بعدائية على كل الجبهات، من أوكرانيا والمسائل النووية إلى سورية وفنزويلا، من الضروري ألا نعرب عن قبول ضمني لاعتداء روسيا الباكر على جورجيا.

● إيا مورميشفيلي