من المفيد ونحن نحاول فهم الأسباب وراء الاحتجاجات الحاشدة في الجزائر أن نتذكر أن رئيس البلاد المنتهية ولايته، عبد العزيز بوتفليقة، شغل هذا المنصب طوال عقدين من الزمن، وكان قبل ذلك بفترة طويلة يشغل منصب وزير الخارجية، في عام 1963، العام الذي اغتيل فيه الرئيس الأميركي السابق جون ف. كينيدي. ويقترب عمر رئيس أركان الجيش الحالي من الثمانين عاما، ويبلغ عمر القائم بأعمال الرئيس حاليا 77 عاما. إنه نظام هَرِم تمكنت منه الشيخوخة، ويتولى أمر شعب يُعَد بين أكثر شعوب العالم شبابا.

لم تكن أحوال الجزائر طيبة في ظل حكم الشيوخ، ففي أحدث تقرير صادر عن فريدوم هاوس، تصنف الجزائر على أنها دولة "غير حرة"، في حين اعتبر التقرير دولا مجاورة- المغرب، ومالي، والنيجر- "حرة جزئيا"، والآن تُعَد تونس دولة "حرة". الخطأ الذي وقع فيه النظام الجزائري هو أنه تصور أنه قادر على إعادة تنصيب بوتفليقة، الذي أصبح عاجزا مقعدا منذ أصيب بجلطة دماغية قبل ست سنوات، لفترة ولاية خامسة دون أن يلاحظ ذلك أحد أو يكترث له.

Ad

يحرك الأحداث اليوم شعور عميق بالمهانة والخزي بين الجزائريين، فمنذ الاستقلال في عام 1962، كان حكامها يميلون إلى اعتبار الشعب خداما لهم، لا العكس كما ينبغي. لكن ازدراء النظام كان واضحا بشكل خاص في وقت سابق من هذا العام، عندما أيدت أبرز شخصياته علنا ترشح بوتفليقة بالانحناء لصورته، لأن الرجل ذاته لم يكن قادرا على الظهور على خشبة المسرح أو حتى مجرد الكلام. ربما كان مثل هذا الدجل لينجح في كوريا الشمالية، أما في الجزائر فالناس قادرون على الوصول إلى الإنترنت وقنوات التلفزيون الدولية؛ وبوسعهم أن يميزوا المسرحية الهزلية إذا صادفتهم واحدة.

إلى جانب افتقار الجزائر إلى التعددية والديمقراطية، كان أداؤها الاقتصادي كارثيا، فهي تحتل على مؤشر البنك الدولي الذي يقيم مدى "سهولة ممارسة الأعمال" المرتبة 157 بين 190 دولة، في حين يأتي المغرب في المرتبة الستين، ويرجع هذا الفارق بالكامل تقريبا إلى نموذج التنمية العتيق القائم على الدولة الريعية، والحكومة مهووسة بالإبقاء على قبضتها الحديدية على الاقتصاد حتى أن الجزائر لا تزال واحدة من دول قليلة لم تنضم إلى منظمة التجارة العالمية.

نتيجة لهذا كانت الجزائر تعيش بالكامل تقريبا على عائدات النفط والغاز، التي لا تزال تمثل 90% من حصيلة صادراتها، وبعد مرور ستين عاما على استقلالها، لم تقم الحكومة بعد بأي محاولة جادة لتنويع الاقتصاد، وخارج قطاع النفط والغاز، كان خلق فرص العمل أولوية متأخرة. هذه هي طبيعة الدول الريعية، التي يتعين عليها أن تحافظ دوما على احتكارها لوسائل الإنتاج وخلق الثروة من أجل السيطرة على السكان.

حتى لحظتنا هذه، كان النظام حريصا على صيانة الاستقرار الاجتماعي من خلال توزيع الموارد على السكان ومنع ظهور قطاع خاص قوي قادر على تحديه من الداخل. وعلى هذا يُعَد افتقار الجزائر إلى الديمقراطية وضعف أدائها الاقتصادي عارضين للمرض الأساسي ذاته. لقد تبين أن المحاولة التي قام بها النظام لتحرير الاقتصاد في تسعينيات القرن العشرين كانت فجرا زائفا، ولم يستفد منها سوى قِلة منتقاة من المستوردين والمقاولين الذين يعتمدون على المناقصات العامة. والآن يأتي عملاء النظام هؤلاء بين الأهداف الأساسية للمحتجين، بالإضافة إلى حرمان الجميع باستثناء قِلة من أصحاب النفوذ المتصلين سياسيا من الفرص الاقتصادية، عمل النظام على توليد الفساد المستشري. تحتل الجزائر على مؤشر مدركات الفساد التابع لمنظمة الشفافية الدولية المرتبة 105 بين 180 دولة، متخلفة بذلك كثيرا عن المغرب وتونس، وكل منهما لا تمثل قدوة للحكم الرشيد.

إذا كان للنظام الجزائري أن يدّعي نجاحا واحدا، فهو يتمثل في توفير التعليم المدرسي لأغلب السكان، غير أن نوعية التعليم بائسة، ففي التصنيف العالمي الصادر عن برنامج تقييم الطلاب الدوليين، تقبع الجزائر قرب القاع في كل الفئات.

منذ الاستقلال، خلط النظام الجزائري بين الباتريمونالية (الأبوية) العربية التقليدية والأوليجاركية على الطريقة الروسية، حيث تستقر السلطة بين أيدي العشير الرئاسي، والأجهزة الأمنية، والعملاء المخلصين الذين يعيشون على الدولة الريعية. وقد نجا هذا الترتيب إلى حد كبير من ثورات الربيع العربي في الفترة 2010-2011، وهو ما يرجع في الأرجح إلى حقيقة مفادها أن صدمة الحرب الأهلية في الجزائر، التي أودت بحياة ما يقرب من 200 ألف شخص في الفترة من 1991 إلى 2002، لا تزال ذكراها حية في أذهان الناس وثقيلة على كواهلهم، ويظل هذا صادقا حتى يومنا هذا، وربما يفسر لنا لماذا كانت الاحتجاجات سلمية في الأغلب الأعم.

على الرغم من رحيل بوتفليقة، لا يزال النظام قائما ويختبئ خلف شكلية دستورية من الواضح أن المحتجين لا يعتبرونها شرعية. يطالب الجزائريون بمؤسسات سياسية جديدة وانتقال منظم يمنع الحرس القديم من استغلال فرصة "خلو العرش" لاستعادة السلطة. لكنهم حريصون أيضا على عدم استفزاز أي ردة فعل عنيفة من قِبَل قوات الأمن، فالطبيعة السلمية التي تتسم بها الحركة ربما تكون أقوى أصولها.

على الرغم من تخطيط النظام لإجراء الانتخابات الرئاسية المقررة سابقا في الرابع من يوليو، فإن الاحتجاجات المستمرة والتهديدات بمقاطعة الانتخابات- أكد عدد كبير من رؤساء البلديات أنهم لن يفتحوا مراكز الاقتراع في بلدياتهم- قد تجبر النظام على قبول الانتقال السياسي باعتباره الخيار الوحيد القابل للتطبيق. وفي هذه الحالة، تُلغى الانتخابات، وربما يمكن تشكيل مجلس رئاسي مكون من ثلاثة إلى أربعة أعضاء لتعيين حكومة انتقالية واتخاذ خطوات قانونية لتنظيم الانتقال، مع قيام الجيش بدور الضامن. لكن الشرط المسبق هو تأجيل الانتخابات وتأييد المؤسسة العسكرية لهذا السيناريو.

الأمر الواضح بالفعل هو أن عملية الانتقال الحقيقية لا يمكن التعجيل بها في غضون بضعة أشهر، فبعد أكثر من ستين عاما من استبداد الدولة الريعية، سيستغرق الأمر بعض الوقت حتى تتمكن القوى الديمقراطية من تنظيم صفوفها والتكاتف من أجل تحقيق أهداف مشتركة، ويجب أن يكون الهدف تمكين العناصر القديرة في المجتمع المدني الجزائري من تولي إدارة الدولة، على أن تكون القوات المسلحة محايدة، وخلافا لذلك، كل الخيارات مفتوحة. صحيح أن النظام الذي يفترض أن يرحل لا يزال يسوغ الشك والريبة، لكن الشارع الجزائري يقدم الآن سببا وافرا للأمل.

* زكي العايدي

* أستاذ العلاقات الدولية والشؤون الأوروبية في معهد الدراسات السياسية في باريس.

«بروجيكت سنديكيت، 2019» بالاتفاق مع «الجريدة»