يقولون لك "دع القلق وابدأ الحياة"، يرددونها ثم يلحقونها بأن عليك أن تعمل لتُخلَق لك الحياة، وبعدها لا تخلو عبارات الكثيرين وخصوصا المسؤولين منهم من الحث على العمل، وأننا شعوب كسولة لا تعمل، ولا تقدّر أهمية العمل في الحياة، تتابعك الدراسات بأن مستوى ساعات العمل في المنطقة هي الأكثر تدنياً في العالم، ثم تحدثك الدراسات نفسها عن كم العاطلين من الشباب والشابات الباحثين عن فرصة ولو بسيطة للعمل، المدركين أن لكل مجتهد نصيباً، وهم مجتهدون ولكن لا فرصة لهم أو لهن.

يأتي مديرك ليقول: لماذا تنهك نفسك في قضايا العمل ومشاكله، فهناك حياة خارج هذه الدائرة أو المؤسسة فعش حياتك وابعد عن القلق؟ يبدو أن القلق يطاردك وأنت تردد، ولكني حقا أعمل على أن أعيش حياة دون قلق، ومع هذا فإنني مجبر على التفكير في متطلبات إيجار البيت أو أقساط شرائه وأقساط مدارس الأولاد، وإذا كانوا قد كبروا وتخطوا مرحلة المدرسة والجامعة فكيف أنني صرفت كل ما ادخرته على تعليمهم لينتهوا في طوابير الباحثين عن عمل أو حتى يقبضوا دراهم أو ملاليم، يقول ذاك الصديق الذي علّم أولاده إن "العلم نور"، وإنه فرصتهم في حياة كريمة بأنه صرف على كل من أولاده الثلاثة ما لا يقل عن 500 ألف دولار منذ الحضانة حتى الجامعة بشهادة البكالوريوس لا الماجستير والدكتوراه، ثم عادوا جميعاً يمضون الوقت أمام أجهزة الكمبيوتر يبحثون عما يجعلهم يمضون وقتهم دون حسرة أو يسعدوا بوظيفة لا تسمن ولا تغني من جوع، فيجدون أيديهم ممدودة إلى أحد أفراد العائلة، الأب أو الأم، الأخت أو الأخ ليساعدوهم في قضاء ما تبقى من الشهر!!

Ad

عندما تجرأت هي للحديث مع المسؤول عن قسمها بأن أخبرته بمدى التسيب في تلك المؤسسة وقلقها على العمل... إلخ... إلخ، ابتسم ذاك المسؤول وقال لها "عبي حياتك" ونصحها بأن تجد حياة خارج العمل، هي التي عينت نتيجة إخلاصها لعملها وتفرغها له إيمانا منها بتلك المبادئ التي حدثوها عنها عندما تقدمت للعمل.

فكرت كثيرا في كلام ذاك المدير ثم قررت أنها لن تصل إلى أي حل، هو الآخر ينصحها بأن تدع القلق وتبدأ الحياة، وهي ليست قلقة على نفسها بل على الكثير من القيم التي تربت عليها وعلى ذاك الخطاب الذي طالما سمعته من قبل الكثيرين، خصوصا عندما تكون امرأة وطافت بمشاهد من الأفلام التي تصور النساء وهن يقمن بأعمال التحضير للطبيخ على مكاتبهن، فضحكت بحسرة وهي التي آمنت أن العمل عبادة، والتي حاولت أن تغير مفاهيم مترسخة عن أننا شعوب لا تعمل ولا تحب العمل، والنساء منا أكثر الكسالى مع أنهن أكثر الكادحات في أيام تطول حتى آخر ضوء قمر.

تلازم العبارتين، أي أهمية العمل مع نسبة البطالة العالية، مع عبارة ونصيحة "دع القلق"، هو بذاته ليس مسببا للقلق فقط، بل لحالة من الاكتئاب التي تشمل الكبار والصغار ولا تستثني أحداً!

بعضنا أو بعضهم يتساءل: هل هناك وصفة طبية للابتعاد عن القلق في أجواء ينتشر فيها كالنار في الخشب، ما الذي يستطيع أن يفعله ذاك الموظف الذي ينهك نفسه في العمل، ومع ذلك لا يحق له أن يأخذ إجازة لأنها للكسالى فقط؟ وماذا عن الحياة خارج العمل؟

لا أحد يعرف أن يفسر هاتين المتلازمتين، وأن لكل مجتهد نصيباً، وماذا عن ذاك الشاب الذي ضيع سني حياته الأولى حيث اللعب واللهو والتجارب الملهمة في غربة وتشرد، للحصول على شهادة الدكتوراه من أعرق الجامعات لينتهي هو الآخر في سلة القلقين لأنه لا فرصة عمل له، ليس في وطنه أو أوطانه ولا هناك حيث تنهش الغربة لحمه الحي.

يبدو أن عبارة "دع القلق" بحاجة إلى "روشتة" واضحة لكل هؤلاء الكثرة من الشباب والشابات الذين يحسدون آباءهم وأجدادهم على بساطة الحياة ورغد العيش عندهم، أو هكذا يتصورون عند مشاهدة كثير من أفلام الأبيض والأسود رغم أنهم يعرفون أن السينما هي جزء من الواقع وكثير من الخيال، هم لم يعودوا قادرين حتى على الحلم لأنه هو الآخر لم يعد مسموحاً أو ممكناً.

القلقون ليسوا قلقين بإرادتهم حتماً، وليسوا مكتئبين أيضاً برغبتهم الجامحة في التقوقع والمكوث ساعات طويلة في النوم، أو الاعتماد التام على "الزنكس" تلك الحبة التي أصبح البعض يتعامل معها كما "البنادول"، لا شيء ينهي القلق والأجواء بمجملها لا تبعث إلا عليه، فأيها المبتهجون غير القلقين علمونا بربكم كيف نبعد عنه، أي القلق!!

* ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية.