ينتمي القاضي الأديب د. غالب غانم إلى سلالة مُعرقة في الشعر والفكر والأدب والقانون. هو من مواليد بسكنتا الواقعة في سفح جبل صنّين اللبناني. والده الشاعر الناقد واللغوي والمسرحي والصحافي والروائي والمفكّر ومعلّم الأجيال عبدالله غانم. وله بين إخوانه أكثر من شاعر وأديب (جورج غانم وروبير غانم ورفيق غانم). انتسب الى القضاء عام 1973 وأحيل الى التقاعد عام 2011، بعدما تولّى أعلى المناصب القضائية في بلده (رئيس مجلس القضاء الأعلى، والرئيس الأوّل لمحكمة التمييز، ورئيس مجلس شورى الدولة) وأرفع المسؤوليات على صعيد التعاون بين الهيئات القضائية العالمية (رئيس منظمة محاكم التمييز الفرانكوفونية).

عُرف في ميدان القضاء بالحياد والاستقلال المطلقين وبثنائية الحكمة والشجاعة، وبما أنجزه في سبيل رفعة السلطة القضائية ومناعتها وتطوّرها. لكنّه، إلى ذلك، ظلّ وفيّاً لموهبته الأدبيّة فتجلّى في ميدان الأدب والفكر النقدي والسيرة والخطابة، وامتاز بأسلوب أدبي خاص رافلٍ بالجمال، عميق الصلة باللغة العربية التي سمّاها "حسناءه البدويّة السمراء". له مؤلّفات قانونية تُعدّ مراجع يُهتدى بها في ميدانها، ومؤلّفات أدبيّة (من الشائع الى الأصيل، أبعد من المنبر، شعر اللبنانيين باللغة الفرنسيّة...) لا تزال تشهد ولادة أخوات لها. "الجريدة" التقته في بيروت، فدار الحوار الفكري والثقافي التالي:

Ad

● سليل عائلة أدبيّة غَرفتْ من ينابيع الأدب، فيمَ كانَ تميّزك؟

- شجرة عبدالله غانم الأدبيّة وارفةُ الظّلال، كثيرةُ الثمر. شعراء وأدباء ونقّاد ومفكّرون... حَمَلَةُ قلمٍ وقِيم... كلّهم أبناء والد واحد هو الأصل، وهو المعلّم النهضوي الذي تلقّى من اليدِ الربّانيّة موهبة خارقة. بعدَ أن خضّبَ أوراقنا الأولى برذاذِ ريشتِه، شقَّ كلٌّ منّا طريقاً خاصّاً، ونزل إلى الميدان لإثبات الذات لا للمنافسة. على أيّ حال، لا تستطيع أن تتنافس مع ذاتك، ومع لحمك ودمك وروحك، والوالد بعضٌ من هذه كلّها. طريقي الخاص أوصلني إلى تركيز الاهتمام على الفكر النقدي الأدبي (في كتابي "من الشائع إلى الأصيل")، والخطابةِ الأدبيّة ("في كتابي "أبعد من المِنبر") وكتابة السيرة ("ما لم يكتبه أبي" - يصدر قريباً)، وكلّ ما يمتّ بصلة أو بقرابة إلى عالَم الأبعاد والأعماق، وإلى عالَم الجمال.

● تُسبغ على النصّ القانوني طلاوة أدبيّة تنبض بالحياة، فكيفَ نمّيت هذه الموهبة الفريدة؟

- في تاريخ القضاء والمحاماة، في الشرقِ والغرب، أسماء لم ترَ ضيراً في مقاربة الأدب، ومؤالفِتِه، والاختيال في حدائقه الغنّاء، رغمَ التزامها بقواعد المهنة، ومقتضيات المسؤوليّة والموضوعيّة. إنّي أميلُ الى الاعتقاد أنّ ثمّة موهبة أدبيّة فطريّة تَميّز بها هؤلاء ولم يشاؤوا القضاء عليها، بل راحوا ينمّونها بالقراءة والكتابة واستلهام أشواق النفس وأسرار الكلمة الخالدة. وفي ظنّي أني أنتمي الى هذه الفئة التي تمرّست بالطلاوة في الأدب، فعكستْ بعضاً منها على النصّ القانوني دونما إفراط، حتى لا تضيع المعايير، وتختلط الأساليب اختلاطاً يسيء إلى الأدب والقانون في آن.

● ما الذي يُضيفُهُ علم القانون إلى الأدب، أهو المنطق؟ وما يُضيفُهُ الأدب إلى القانون، أهي اللباقة؟

- يُخطئ الظانّون أنّ كلّاً من القانون والأدب هو في غُنيةٍ عن الآخر. للأدب رونقُهُ وتخيّلاتُهُ وللقانون مصطَلَحُهُ وضوابطُهُ... هذا صحيح. والصحيح أيضاً أنّ الأدب، مهما أوغل في الخيال والطرافةَ والتحديث، يبقى مهدّداً بالتهافت إنْ لم تكن أعراقُهُ وجوارحُهُ مشدودةً بعضاً إلى بعض بأسلاك المنطق، وعلى الأقلّ بأسلاك الأصالة. أمّا النصّ القانوني - الحكم على الأخصّ - فمهما أوغَلَ في الواقعيّة والجدّية والحياد، تظلُّ لباقَةُ قلمِكَ، ورحمةُ ربِّكَ، كفيلتين بأنْ تقرّباه من الجوهر، وتبعداه عن المادة الصلبة، قانوناً كانت أم معدناً. ولقد تبسّطتُ في هذا الطرح في محاضرة عنوانها "بين الأدب والقانون"، ألقيتها منذ زمن بعيد في منتديات شتّى، وجعلتها تعكس أفكاري، ووجهاً من وجوه شخصيّتي الثنائية الأبعاد، حتى لا أقول أكثر.

بين القضاء والأدب

● تتمتّع بشخصيّتين مرموقتين: سمة القاضي الرفيعة، وسموّ الأديب وعمقه، فما الأحبّ اليك؟

- إذا كان المحبّون يعشقون مَنْ يُرهق قلبهم ولا يجعلهم يصلون الى السموّ إلّا بالمشقّة، فأنا أختار القضاء. وإذا كانوا يعشقون مَنْ يستقبلهم بنثر الورد ويعدهم بفردوس الكلمة، فأنا أختار الأدب. ولكنّي، بالفعل، عشقت حسناء يدّعي كلّ من القضاء والأدب أنّها ربّة إلهامه، هي الحريّة.

كنتُ طليقاً في القضاء فلم يحتكرني محتكِر، ولم أدعْ أيّ طامع يغزو ضميري وقناعاتي، وكنتُ طليقاً في الأدب فلم تخدعني أقفاص المذاهب. والأهمّ أنّني كنت في الحالين، أجتنبُ السطحيّ والعرضيّ والمكرور، وأبحث عمّا وراء الأسترة، مستلهمًا بيتاً من الشعر لوالدي، صدَفَ أنّه ذكر فيه القضاء، ولكنّه عنى أبعد من ذلك: مغامرة الحياة ومغامرة الموت. قال:

يستقيمُ القضاءُ في كلِّ حكمٍ لو تجولُ الرؤى وراء الستارِ

● إذا امتثل أمامك رجل قانون أو أديب، فهل تبحث له عن أسباب تخفيفيّة؟

- الأسباب التخفيفية مرآة ذات وجهين. بمستطاعها أن تقدّم البلاسم وتفتح باب الرحمة في ساعات الشدّة، وتحضّ على النقد الذاتي وعلى التهيّؤ لمسلك أفضل. وبمستطاعها أن تدفع الى الغرور وخداع النفس وسوء تقدير ما هي عليه الذات. إنّ الإفراط في منح الأسباب التخفيفية للقاضي يعني أنّك تبتعد عن المثال، والإفراط في منحها للأديب يعني أنك تبتعد عن الإبداع. أمّا إذا كان المقصود هو تعاطفي، كقاضٍ، مع زميلٍ في المهنة أو قرينٍ في حرفة الأدب، فالجواب هو أنّني أخشى أن تلحق بي الأسباب المشدّدة إذا منحته الأسباب التخفيفيّة دونما مبرّر قانوني.

● ألا تعتقد أنّ الرحمة في الأحكام تشجّع المرتكب على المضيّ في اقتراف الجريمة؟

- الكلام على الأسباب التخفيفيّة فرضَ عليّ، بكلّ عفويّة، الالتفات الى الرحمة ومفاعيلها. ولكنّي من المدرسة القانونية والجنائية التي تدعو الى التعامل مع المجرم باعتباره كياناً إنسانيّاً يستوجب كلّ اهتمام وكلّ رعاية، وذلك من دون أن نغضّ الطرف عن حقوق الضحيّة. ثمّ إنّ الرحمة هي ضد القسوة، والقسوة هي وجه من وجوه العنف الذي نبذتُهُ طوال تجربتي في القضاء وتجربتي في الحياة، سواء أكان عنفاً في المواقفِ أم في النصّ، في إدارةِ الملف أم في إصدار القرار.

لا تخلو الأحكام القضائية - الجزائية على الأخصّ - من بعض العنف، خصوصاً إذا كانت تحدّ من حريّة المحكوم عليه. إنّ قليلاً من نسيم الرحمة كفيل بأن يدفع بالحكم القضائي الى آفاق أكثر إنسانيّة.

مؤلفات قانونية وأدبية

● لديك مؤلّفات قانونية وأدبيّة، فاق عددها العشرات، فكيف تحيّنت الوقت لإتمامها بهذا الإتقان؟

- كنتُ دائماً أخشى أن تذهب الثواني في طريقها فارغة، وأن يتكرّر ذلك إلى درجة تجعل الحياة بلا معنى. كما كنت أعتقد أنّ الوقت يحتاج الى إدارة حسنة حتى لا يُهدر. لقد نذرتُ الشطرةَ الكبرى من حياتي لإتقان مسؤوليّاتي القضائية. ولكنّني لم أستطع التخلّي عن هواية التأليف التي مارستها بإتقان كذلك، في القانون والأدب. والإتقان يعني، في وجه من وجوهه، أنّك تحترم القارئ، وتجانب الشائع والقريب المتناول، وتقدّم جديداً أو على الأقلّ مفيداً في المضمار الذي تقتحمه. وهو يعني أيضاً أن تكون لك علاماتك الذاتية في خضمّ الهويّات.

● ما الذي آثرته على سواه في قراءاتك، الموضوعات الأدبيّة أم الصّيغ القانونية؟

- من النّادر أن تقرأ نصّاً قانونياً للمتعة، أو نصّاً أدبيّاً للمنفعة. من هنا أنّ المسألة تتخطّى الموازنة أو ترجيح فئة من القراءات على سواها. المهمّ، في أيّامنا على الأخصّ، ألّا نقطع الصلة بالكتاب، مهما كانت المائدة التي يبسطها أمام عينيك. كنتُ منذ الغضاضة مشغوفاً بالقراءة، ولا أزال. يستهويني أدب السيرة، والرواية، وتاريخ الحضارات، والشعر، والفكر النقدي، وعلم الاجتماع. أمّا القانون، فخيرُ ما يجذبني إلى قراءته، هو ما كُتب في فلسفة القانون، وفي العلم الدستوري، وفي القانون الدولي العام. أمّا الباقي فهو من أدوات العمل اليومية التي يتمّ اللجوء اليها لدى الضرورة.

● للقضاء في تاريخ العرب محطّات ومواقف مشرّفة، فما الذي بقي في خلدك.

يحفل التاريخ العربي بالمآثر القضائية وبما كان للقضاة من شأن ومهابة ومواقف شجاعة. ويستوقفني عهد الخلفاء الراشدين الذين قدّم بعضهم للقضاء - فضلاً عن الأحكام المحصّنة بالعدل - عهوداً أرست القواعد الكبرى في الأخلاقيّات القضائيّة. فمن "عهد" الخليفة عمر بن الخطّاب الى أبي موسى الأشعري عندما ولّاه على قضاء البصرة، أَحفظ:

"آسِ بين الناس في وجهِكَ وعدلِكَ ومجلسِكَ، حتى لا يطمع شريف في حيفك ولا ييأس ضعيف من عدلك".

ومن عهد الإمام علي بن أبي طالب للأشتر النخعي حين ولّاه على مصر، أَحفظ:

"ثم اختَرْ للحكم بين الناس أفضل رعيّتك في نفسك... وأقلّهم تبرّماً بمراجعة الخصم... وأصرمهم عند اتّضاح الحكم، مّمن لا يزدهيه إطراء، ولا يستميله إغراء".

وكنتُ دائماً أُعجب بالقضاة الذين حاولوا أن يرفضوا المناصب العليا المعروضة عليهم، ولم يكونوا يقبلون بتولّيها إلّا عندما يستبين لهم أنّ مصلحة الرعية تقتضي ذلك.

علينا أن نغرف من تاريخنا القضائي قبل الالتفات الى السّوي. الانفتاح على تراث الأمم أمر جيّد. لكنّ المشكلة تكمن في اعتقادنا أنّهم متفوّقون علينا وأنّنا بتنا مكبّلين ولم نعد مؤهّلين للمنافسة الحضاريّة.

● ما هي المرافعة القانونيّة التاريخيّة التي أثارت إعجابك؟

- أبرز ما أُعجبت به هو المرافعات التي تحدّت الطغيان في عقر داره، والأحكام التي تلتها مثبتةً أنّ السموّ هو للعدل لا لجنون العظمة.

● هل تأسّفت على حكم أصدرته ذات مرّة؟

- ليس من الطبيعي ولا من البشري ألّا نخطئ في عملنا طوال أربعين أو خمسين عاماً، وليس من الطبيعي ولا المقبول أن يتحوّل الخطأ إلى قاعدة. أظنّ أنّ الحكمة والاعتدال وهاجس الدقّة ونُشدان العدالة ونظريّة "المسافة" ما بين أطراف القضيّة قادتني جميعاً إلى إصدار أحكام لا تدعو الى التأسّف.

أمّا الشواذ على القاعدة – وهو نادر الوجود - فهو مُغطّى بحسن النيّة. أن تُخطئ، فهذا أمرٌ ممكن. أمّا أن تقصد الى الخطأ وأنت تراه بأمّ العين، فهذا هو الذي يدعو الى الأسف.

● العالم يتراجع أخلاقيّاً، فمصالح الدول والأشخاص تتغلّب على الصالح العام، فما هي نصيحتك للأجيال الناشئة؟

- أتمنّى أن يعودوا الى الأصالة، وألّا يضعوا سلّم القيم في العتمة... الأصالة هي ابنةُ الأمس واليوم والغد، وإليها المآل، لا إلى الطفرات التي ما إنْ تظهر حتى يصيبها البهوت والانحلال لأنّها بلا جذور.