أستطيع استيعاب الأمر عند سماعي معلقة كاملة تدور حول مضار الخمر وآثار تعاطيه، ولكن بالتأكيد سيعاني فهمي كثيراً في حال كان مصدر معلقة الهجاء الخمرية سكيراً يحمل درجة ماستر كحول، ودكتوراه تقطير في عيون هلا بالخميس، السكران مع احترامي لآدميته التي يحاول التخلي عنها مع كل ارتشافة كأس يجب ألا يحدثنا عن مضار الخمور، فدرجة المصداقية هنا شتاء تحت الصفر لا تعينه على شبة نار مثل هذه، ولا دلاله تصلح لقهوة البن التي نعرفها، بل لقهوة أخرى، ولأن المصداقية صفر فلابد له أن يتوقف أولاً عن تعاطي مسكره ثم يتحفنا بمعلقاته وإرشاداته عن مضار السُكر، فالمصداقية تحكم كما تحكم القافية المعلقات الشعرية تماماً.

ما سبق يشمل كل "سكران" سواء بكحول أو بغيره، وما أقصده بغيره هو ذاك الذي يشترك مع السكارى وخمورهم في الصفة التي جلبت لهم الذم، ألا وهي غياب العقل أو الوعي، وما أكثرهم!

Ad

لغوياً السكرة، تعني غياب الوعي؛ ولذلك يقال سكرة الموت، وسكرة العشق، وسكرة المال، وسكرة المنصب، وسكرة المصلحة، وفي قصيدة الأطلال التي غنتها أم كلثوم يقول ناجي: "هل رأى الحب سكارى مثلنا؟"، وهو قطعا لا يقصد هنا سكرة الخمرة، بل سكرة الحب والعشق، ومع المعنى اللغوي يحفل الواقع بشتى أنواع السكرات الخالية من الكحول يكاد يكون عنوانها الأوحد هو الانفصال الشديد عن الواقع بدرجة تجعل من سكرة الخمر المعروفة مجرد عصفور كناري أليف و"تغريده كيوت" يقف وحيداً أمام غراب ناعق "زاعق" يمثل السكرة التي أقصدها بأبهى صورها.

الطائفي الذي يحاول جاهداً تفريق مجتمعه سكران لأن وعيه غائب عن واقع الإقليم المضطرب من حولنا، والمدافع عن سارق المال العام والمطبل له سكران لأنه لو كان يملك الوعي لما دافع وطبّل لسارق مال أولاده وأحفاده، الناخب الذي يعطي صوته لمن لا يستحق سكران غير واع لأنه سلم لحيته لحلاق فاشل في ميدان التشريع، وغيرهم السكارى بلا كحول أنواع كثيرة تفوق عدد السيارات على طريق الغزالي في زحمة الدوامات، ولكن أغربهم وكصورة من واقعنا المشاهد من يقف لأجل مصالحه الذاتية أمام مشروع كمدينة الحرير المرتقب، مع ما يمثله لمستقبل البلاد التي يقف اقتصادها بعجره وبجره على "كف برميل"، هذا المثال هو سكران طينة حتى إن لم يطعم خمرا في حياته، إلا في حال كان لديه طبعا البديل المناسب في حال خسارتنا لمورد النفط كاستثمار بساتين التفاح والعنب والزيتون الموجودة في غابات المقوع خلف شلالات الضجيج بجانب نهر الوطية لتصديرها للخارج، أو إعادة فتح مناجمنا في بر السالمي واستخراج الألماس والياقوت والمرجان، وأحمدك يا رب لسد احتياج بلد ٩٥ في المئة من ميزانيته من النفط والـخمسة في المئة الباقية من مخالفات حزام الأمان ورسوم دينار المستوصف!

هذا السكران وأشباهه يحاول وقف مدينة الحرير بسبب الخمر حسب قوله، فأي سكر هنا أدهى وأمرّ، سكر المصالح أم سكر الكحول؟! يريد باكياً وقف المشروع والتماسيح خجلا تنفي تدخل دمعها في الموضوع، مصوراً إياه للمجتمع وكأننا سنبني لاس فيغاس الخليج لا مدينة الحرير الاقتصادية، يهدر ويرعد على الرغم من أن كل ما تداوله هو ظني، وما زال معتمدا على طور التشريع المطروح في مجلس الأمة وطرق تداوله، ولكن لأن الوعي بتاع جنابه فاته التبصيم في دوام الحقائق فلابد له من إجازة مرضية تسد غياب وعيه، لكي لا يُخصم من رصيد مصلحته فينفضخ لا وعيه في مجالس المخ والمخيخ، وطبعا الإجازة المرضية المناسبة لوضعه لابد أن يكون تشخيصها: فقر دم حاد في الوجه مع برودة وارتعاش مزمن سببه كثرة دغدغة مشاعر المجتمع وتهييج تحلطمه مع "سكر مرتفع" لا بسبب الخمر بل بسبب المصالح!!

أخيرا لا أقصد هنا كل من له رأي بمدينة الحرير، فالآراء ماء زلال مباح ولا سكر فيه، ولكن كل البلاء من "سكرة تتطوطح" تنهى "سكرة دايخة" عن المنكر وتأمرها بمعروف الوعي، وكلنا عيال قرية وكل يعرف أخاه ولا عزاء للوعي، وبالمناسبة هل رأى الحرير سكارى مثلنا؟!