من المعلوم أن صاحب السمو الأمير الراحل الشيخ عبدالله السالم الصباح، صدّق على الدستور فور رفعه إليه، وأصدره في الحادي عشر من نوفمبر سنة 1962، ولم يعدّل فيه حرفاً واحداً، إلا أن ديباجة الدستور التي حملت اسم سموه في التصديق على الدستور جاءت حبلى بالمعاني السامية في بلاغة وبيان رائع رغم قلة كلماتها، فهي تحمل مشاعر سموه نحو وطنه وشعبه، وحلمه في مستقبل أفضل يسعى إليه الدستور وحرصه على صالح المجموع.

وسعياً نحو مستقبل أفضل ينعم فيه الوطن بمزيد من الرفاهية والمكانة الدولية، ويفيء على المواطنين مزيدا كذلك من الحرية السياسية، والمساواة، والعدالة الاجتماعية، ويُرسي دعائم ما جُبلت عليه النفس العربية من اعتزاز بكرامة الفرد، وحرص على صالح المجموع، وشورى في الحكم في الحفاظ على وحدة الوطن واستقراره، فكانت أول إشارة في الدستور إلى صالح المجموع بالنظرة الشاملة لمستقبل الأمة بأجيالها المتعاقبة، وتجيء المادة (108) من الدستور، لتنص على أن «عضو مجلس الأمة يمثل الأمة بأسرها ويرعى المصلحة العامة في أعماله بالمجلس ولجانه»، وهو خطاب من المشرع اختص به كل نائب من أعضاء مجلس الأمة، والمصلحة العامة معناها الأشمل هي- فضلا عن صالح الجيل الحالي- صالح الأجيال القادمة، لأهمية الوظيفة التشريعية، باعتبارها تشرع لمستقبل هذه الأجيال بالإضافة إلى الجيل الحالي.

Ad

ولنص المادة (108) خلفية تاريخية سنتناولها في مقال قادم، نفرده لهذه المادة إن كان في العمر بقية، نكتفي بهذه الإشارة إليها إلى ما ورد في ديباجة الدستور من استشراقه لمستقبل الأجيال القادمة.

قانون احتياطي الأجيال القادمة

وهو القانون الذي صدر بالمرسوم رقم 106 لسنة 1976 استخداما لسلطة الأمير الدستورية في غياب مجلس الأمة بعد تعطيل الحياة النيابية، والذي أنشأ حسابا خاصا لتكوين احتياطي بديل للثروة النفطية يسمى «احتياطي الأجيال القادمة» تضم إليه نسبة قدرها 50% من المال الاحتياطي العام للدولة الموجودة عند العمل بهذا القانون، وتُقتطع سنوياً اعتباراً من السنة المالية 1976-1977 نسبة قدرها 10% من الإيرادات العامة للدولة.

وحظر القانون خفض هذه النسبة أو أخذ أي مبلغ من «احتياطي الأجيال القادمة»، وهو الاحتياطي الذي عهد القانون سالف الذكر إلى الدولة باستثماره.

وتشرح المذكرة الإيضاحية للمرسوم بقانون أسباب ومبررات إصداره:

لما كانت إيرادات النفط تمثل المصدر الأساسي لإيرادات الدولة العامة، ولما كانت الإيرادات النفطية تعتمد على مورد قابل للنضوب، فقد وجب علينا أن نؤمن مستقبل أجيالنا القادمة ونضمن لكويتنا البقاء قوية مزدهرة عبر الأزمان والأجيال، وذلك بتجنيب جزء من الإيرادات العامة للدولة ورصده واستثماره حتى يجلب لهذا البلد بديلا للثروة النفطية إذا حانت ساعة نفادها، وبذلك نكون قد أدينا الأمانة نحو أمتنا وأمّنّا مستقبلا مشرقا لأجيالنا القادمة، وحفظنا لبلدنا عزه وسؤدده.

وإنه وإن كان المال الاحتياطي العام للدولة يكون رصيدا للمستقبل، إلا أنه نظرا لما لوحظ من كثرة السحب من هذا الاحتياطي بصدور قوانين متعددة خلال كل سنة مالية بفتح اعتمادات إضافية وأخذ ما يغطيها منه، فقد أصبح لزاما تكوين احتياطي خاص لتأمين مستقبل هذه الأمة يبقى مخصصا للغاية العليا التي رصد من أجلها فلا يجوز المساس به، وبذلك نضمن لشعبنا كرامته وعزته في يومه وغده.

ومن أجل تحقيق هذه الأهداف السامية أعد هذا القانون.

وقد عهد المشرع إلى الهيئة العامة للاستثمار، باستثمار احتياطي الأجيال القادمة بموجب قانون إنشائها رقم 47 لسنة 1982.

التضامن الاجتماعي

وكي تؤسَّس حقوق الأجيال القادمة على التضامن الاجتماعي بين الأجيال المتعاقبة، فإن المادة (25) من الدستور تنص على «تكفل الدولة تضامن المجتمع في تحمل الأعباء الناجمة عن الكوارث والمحن العامة، وتعويض المصابين بأضرار الحرب أو بسبب تأدية واجباتهم العسكرية».

والتضامن الاجتماعي كما عرفه القضاء الدستوري يعني وحدة الجماعة في بنيانها وتداخل مصالحها لا تصادمها، واتصال أفرادها ببعض ليكون بعضهم لبعض ظهيرا، فلا يتفرقون بددا أو يتنافرون طمعا أو يتنابذون بغيا، وهم بذلك شركاء في مسؤولتيهم قبل الجماعة، لا يملكون التنصل منها أو التخلي عنها.

(جلسة 2/ 9/ 1995 ق40 لسنة 16ق– الدستورية العليا فى مصر).

حقوق الأجيال القادمة في الإسلام

وقد كانت حقوق الأجيال القادمة هي فكر الخليفة الفاروق سيدنا عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، فيما كان يقرره من قرارات لمصلحة أمة المسلمين بأجيالها التالية، ولم تمنعه من العمل لمصلحة هذه الأمة وأجيالها القادمة ما ورد في القرآن الكريم من أحكام ملزمة بعد فتح الجيوش الإسلامية العراق فى عهده، وأراد الجند الذين فتحوها الحصول على أربعة أخماسها عملا بقوله تعالى: «وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ»، وأن يقسم عمر أرض العراق كما قسم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أرض خيبر على من فتحوها، بأن يؤول خمس هذه الأرض الشاسعة إلى بيت مال المسلمين، وأن يؤول الأربعة أخماس إلى الجند الذين شاركوا في فتحها، وخالفهم عمر، رضي الله عنه، رأيهم فى قسمة الأرض، وقال: «فكيف بمن يأتي من المسلمين فيجدون الأرض بعلوجها قد قسمت وورثت عن الآباء وحيزت؟ ما هذا برأي».

فجمع عمر المهاجرين الأولين فاختلفوا، فأرسل إلى عشرة من كبراء الأنصار، خمسة من الأوس وخمسة من الخزرج، وجمعهم قائلا لهم «إني لم أزعجكم إلا لتشتركوا في أمانتي فيما حملت من أموركم»... «وقد رأيت أن أحبس الأرضين بعلوجها وأضع عليهم فيها الخراج وفي رقابهم الجزية يؤدونها، فتكون فيئا للمسلمين: المقاتلة والذراري ولمن يأتي بعدهم»... فقالوا له بعد أن تشاوروا في الأمر» الرأي رأيك، فنعم ما قلت، ونعم ما رأيت».

ويطل الموضوع برأسه ثانية عندما يفتح المسلمون الشام، ويثور الخلاف في الرأي بين عمر، رضي الله عنه، وأصحابه الذين ظلوا يحاجونه ثلاثة أيام ليعدل عن رأيه الذي ارتآه وأمر به عند فتح العراق، فأجابهم بمثل ما أجاب الذين حاوروه في أرض العراق قائلا لهم: «إذا فعلت ما ترونه أترك من بعدكم المسلمين لا لشيء لهم»... «ثم يقول: «والله ما يفتح بعدي بلد فيكون فيه كبير نيل، بل عسى أن يكون كلّاً على المسلمين، فإذا قسمت أرض العراق بعلوجها، وأرض الشام بعلوجها فماذا تُسدُّ به الثغور ويكون للذرية والأرامل بهذا البلد وبغيره من أرض الشام والعراق؟».

وهكذا كان اجتهاد عمر، عدالة لا تقف عند العدل بين رعيته، والذين هو مسؤول عنهم، عدالة تشمل مصلحة الأمة كلها، بكل أجيالها المتعاقبة، مما أقنع عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وطلحة والأنصار العشرة الذين أتى بهم يستشيرهم.

ويقول أبو يوسف في كتاب الخراج إن اجتهاد عمر في هذه المسألة كان «توفيقا من الله»، وفيه كان الخير لجميع المسلمين.