كلامي اليوم ستشعر به الجدات، وعلى وجه الخصوص الجدات اللآتي كنّ أمهات صغيرات في القرن الماضي، وكنّ يهرولن ما بين حياة عمل جاد يستغرق ويأكل أهم ساعات النهار، وحياة زوجية تنتظر عودتهن لبيوتهن، لتبدأ ساعات عمل لا تنتهي إلا عند منتصف الليل، الإشراف على خدمات المنزل ورعاية الأطفال، ومتابعة دروسهم وحل واجباتهم، والسهر على مريضهم ومتطلباتهم التي لا تنتهي، يعني الحياة أن تغرق في دوامة، لا تفيق ولا تصحو ولا تنتهي منها المرأة الأم إلا عندما يدق جرس التقاعد، ويحين وقتها وقت الراحة أو الاستراحة من رحلة هرولة السنين التي أخذت معها التعب والشباب وذكريات عمر أُنفقت سنواته على تربية أبناء العمر الذين باتوا شباباً الآن، وطارت العصافير من أعشاشها لتبني عشها الخاص بها.

وفجأة يهدأ نبض الأشياء كلها، يهدأ نبض الهرولة ونبض صراع التوجيه والرعاية والتربية، تنزاح المسؤوليات الضخمة من على الأكتاف المنهدة المتعبة، ويبدأ السكون يعرف دربه، ويتسلل بهدوء إلى الغرف التي كانت صاخبة بأصوات من فيها، برضاهم وباحتجاجاتهم وبمحبتهم وغضبهم وضجيجهم وموسيقاهم، الأصوات كلها تنزاح من أمكنتها، ليبقى الفراغ الساكن فيها وحده يكنس غبار الذكريات في زوايا الغرف التي باتت تشتاقهم.

Ad

سكينة تنهي التعب، لكنها لا تريح العقل من القلق على تلك الطيور المغادرة لأعشاشها، حتى وإن كانت تريم سنّة دورة الحياة وتعاقب ليلها ونهارها.

يبقى هناك أشواق تتصاعد في منامات الروح وأحلامها، لصور أطفال كانوا هنا، يزرعون القلب بالفرح والسعادة والبهجة حتى وإن هرست أعصابنا محبتهم، صحيح باتوا يأتوننا وهم شباب كبار نحبهم ونخاف ونقلق لأجلهم ونسعد ونفرح بقربهم مثلما نحب إخوتنا وأهالينا، لكنهم أبدا ليسوا كهؤلاء الذين كانوا هنا يمرحون ويصرخون بشقاوات طفولتهم اللذيذة البريئة، الذين حبسوا فقط بالصور، وبالذكريات حينما تدهمنا في الصحو والمنام، عندها نتفقدهم، نفتقد طفولتهم، تلك الطفولة التي أهدرناها وضاعت منا بمسارب الغفلة حينما كان تعب التربية أهم من الاستمتاع بمعايشتهم والتمتع بطفولتهم.

من نعيم هذه السكينة وركود هذا السكون يولد وينبع ويأتي إلينا الحفيد، ليدمر الفراغ وليعيد للزمان بهجته، وليقول ها أنذا أتيت بعقارب الساعة من الأمام إلى الخلف، لتدق من جديد كما كانت تدق في سابقها، مع صحوة العمر والوعي والانتباه الجديد، الحياة ليست هرولة خلف ترويض وتعليم وتربية ونسيان من فيها، الحياة متعة واستمتاع بصحبة تنمو يوما عن اليوم الآخر، ويجب امتصاص وارتشاف ولعق ومعايشة كل لحظة فيها، كل تفصيلة وكل متعة صغيرة لضحكة أو كركرة أو لعثمة أو تأتأة، لشيطنة تقلب الدنيا دون أصبع العقاب أو إشارة المنع والتهديد.

شمس صغيرة تطاردني تركض ورائي، تجرني من ثوبي، تدخل معي غرفتي، وتختبئ داخل ضرفة خزانتي ووسط قلبي.

تنبش غرفتي، تشلع كتبي من رفرفها، تسقطها على السجاد وفوقها ترقد ضحكة فوز شيطانية صغيرة، تقول أنا ملك متملك على عرش قلبها، جدتي، رفقتي صديقتي صحبتي باللعب.

شمس صغيرة تسقط نورها بوسط البيت، في الغرف الصامتة التي احتلتها أشعتها وأضاءتها بنور البهجة والفرح والضجيج وعفرتة تُبهج دون أن تعرف طعم العقاب.

شمس صغيرة تسقط في حجري تحتل حضني، تحتلني كلي، تنام الكف الصغيرة بكفي، أطويها مثل قلب نابض ببراءة زمن لم يكشف أوراقه، أقبلها لا أعرف كم مرة، ربما مئات أو آلاف المرات، بوسات لا محدودة لا بكم ولا بكيف ولا بلماذا.

كف صغيرة كانت بمقاس بوصة واحدة بالمقارنة مع كفي، كنت أمسكها فقط بأصبعي الصغير، وأنتظرها أن تكبر حتى تنام بكفي، احتضنها، أقلبها بباطن كفي وأتساءل: ماذا سيكون دورها في مستقبلها الآتي؟

شمس صغيرة جاءت لتخترق حياة السكون، لتهز جذر الركود، لتقلب صمت البيت، لترقص الجدران بهبل وبشغف وبفرح، وبهجة نهارات تستيقظ على زقزقة عصفور مغنّ، مطرب الحي، ينتعش الصباح بهمة غنائه، وبمذاق طفولة عذبة لا تعرف إلا براءة الضحك واللعب.

طفولة تشاركنا تفاصيلنا دورنا ومدارنا، خططنا، وكل ما هو نحن وما هو لنا، حتى أبسط الأشياء هو بيننا.

طفولته أعادتنا إلى طفولتنا وحولتنا إلى أطفال من جديد، لا نعرف من الدنيا إلا بهجة براءتها، وصوت غناء عصفورها الذي يغزل فرح الصباح بغنائه.