عندما كان الرئيس "الوسطي" الفرنسي ماكرون لا يزال النجم الساطع لجيل جديد من مؤيدي الاتحاد الأوروبي قبل بضعة أشهر توقّع كثيرون أن ينجح في قلب السياسات الأوروبية رأساً على عقب، أما الوحيدون الذين أشاروا آنذاك إلى العواقب السلبية المحتملة لإدارته، فكانوا الليبراليين، وهم قلائل في فرنسا، والمحافظين الذين ما زالوا ينوحون على خسارتهم الانتخابية في عام 2017.

تملك فرنسا 79 مقعداً في البرلمان الأوروبي، مما يجعلها في المرتبة الثانية بعد ألمانيا بين الدول الأوسع نفوذاً، ونتيجة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، كسبت فرنسا خمسة مقاعد إضافية في حين أن عدد مقاعد ألمانيا لم يتبدّل، ولا شك أن هذه المقاعد التسعة والسبعين تستطيع زرع الشقاق بين مختلف المجموعات السياسية في البرلمان الأوروبي وتبديل أولويات هذا المجلس التشريعي جذرياً.

Ad

تشير استطلاعات الرأي الحالية إلى أن حزب ماكرون "الجمهورية إلى الأمام" وحلفاءه سيحظون بـ23% متقدمين بفارق بسيط على حزب مارين لوبان "الجبهة الوطنية" الذي سيسجل 21%. وتكشف هذه البيانات أيضاً أن حزب ماكرون يحقق اليوم نتائج أفضل بقليل مما تُظهره استطلاعات الرأي، ويعود ذلك على الأرجح إلى واقع أنه يفوّض حملته الانتخابية إلى مسؤولين آخرين في الحزب فيما يعالج هو تداعيات حركة "السترات الصفراء".

ويا لها من تداعيات! فمع شعبية تبلغ 29% تقريباً وتظاهرات ما زالت متواصلة، لا تلقى خطط ماكرون للإصلاح في أوروبا آذاناً صاغية، ففي شهر ديسمبر الماضي، ذكر المفوض الأوروبي الألماني غونتر أوتينغر أن ماكرون "خسر سلطته"، ومع اكتساب أنغريت كرامب-كارينباور، خلف أنجيلا ميركل، شهرة متزايدة بين الناس، تسترجع ألمانيا مكانتها في بروكسل. وإذا قررت ميركل اليوم الترشح لمنصب رئيسة المجلس الأوروبي المقبل، كما أشار رئيس الوزراء الإيطالي السابق ماتيو رنزي، فقد تنهار خطط ماكرون بالكامل قريباً.

من المفاجئ أن كرامب-كارينباور حققت انتصاراً كبيراً في انتخابات قيادة الاتحاد الديمقراطي المسيحي (الحزب اليميني الوسطي الذي تنتمي إليه ميركل)، منتصرةً على فريديريش ميرز الأكثر تحفظاً. تحتاج كرامب-كارينباور اليوم إلى تعزيز الأجزاء الوسطية واليمينية من حزبها، وبدأت بتحقيق هذا الهدف الثاني بتجاهلها ماكرون رداً على مقال الرئيس الفرنسي التحليلي الأخير الذي وجهه إلى أوروبا بأسرها والذي دعا فيه إلى المزيد من المركزية في الاتحاد الأوروبي. فردت عليه كرامب-كارينباور باقتراحها أن تتخلى فرنسا عن مقعدها في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، فضلاً عن تركيز البرلمان الأوروبي في بروكسل بدل تركه جزئياً في ستراسبورغ، ويُعتبر هذا رداً تهكمياً مرّاً بما أن فرنسا تعارض كلا هذين الاقتراحين منذ مدة.

ماذا نستخلص من هذا كله؟ يخسر ماكرون مكانته واحترامه في أوروبا، وإذا أخفق في تحقيق إنجاز في الانتخابات الأوروبية نحو نهاية الشهر المقبل، فسيسم هذا نهاية خططه الإصلاحية. في المقابل، لا تحتاج لوبان إلى بذل مجهود كبير لتستفيد من الوضع الراهن. حاولت بادئ الأمر التأثير في حركة "السترات الصفراء"، إلا أنها أدركت في النهاية أن من الأفضل لها ولمصالحها ألا تتخذ هذه الحركة طابعاً سياسياً، وتبين أن قرارها هذا حكيم: فقد تراجعت شعبية ماكرون نتيجة عجزه عن التوصل إلى حل سياسي لتظاهرات "السترات الصفراء". ألغت نسخة ماكرون من "الوسطية" نظام الحزبين الفرنسي الذي يضع المحافظين في وجه الاشتراكيين فتعرضت هاتان المجموعتان لامتصاص محتواهما من حزب "الجمهورية إلى الأمام"، وها هما اليوم تتعلقان ببواقي حركتيهما: تبلغ شعبية الحزب الاشتراكي نحو 5% في حين تتراوح شعبية الجمهوريين بين 12% و13%. وتتخبطان مع انفصال النواب عنهما للانضمام إلى ماكرون في حين تواجهان في الوقت عينه أحزاباً وحركات انشقت عنهما.

مع تقويض نظام الحزبين، لم يتبقَّ للناخبين سوى مجموعة محدودة من المرشحين، وفي هذه المرحلة، عادت المسألة برمتها لتتمحور حول ماكرون ولوبان.

تتبع لوبان من جهتها الاستراتيجية ذاتها التي طبقتها طوال العقد الماضي: التحدث في التجمعات الانتخابية، واستغلال التهديدات الإرهابية لتعزز برنامجها المناهض للهجرة، وإثارة الجدل من حين إلى آخر. بالنسبة إلى هذه النقطة الثالثة، واجهت لوبان أخيراً تهماً جنائية لأنها نشرت في تغريداتها على موقع تويتر صوراً بشعة عن عمليات قتل داعش.

لن ينجح ماكرون في تخطي معمعة السترات الصفراء بالادعاء أنه مصلح أوروبي، نعرف ذلك لأنه سبق أن حاول وأخفق، تماماً على غرار سلفه الاشتراكي فرانسوا هولاند، ولا شك أن مَن أوشكوا على التصويت لمارين لوبان قبل بضع سنوات سيسمعون اليوم كل الإهانات ذاتها التي توجّه منذ مدة إلى حزبها ولن يتأثروا بها. من المؤسف في المقابل أن الأضواء لا تُسلّط بالشكل الكافي على المشاكل الاقتصادية التي ستترتب على سياسات لوبان، وبدلاً من ذلك تُهاجَم لسلوكها العنصري المزعوم. صحيح أن بعض سياساتها يكتسب طابعاً تمييزياً، إلا أن هذه الحجة ما عادت تلقى آذاناً صاغية بين الناخبين، الذين يبدون أكثر اهتماماً بالقدرة الشرائية والمساءلة السياسية.

صحيح أن الانتخابات الأوروبية لا تتمتع بتأثير كبير في السياسات الفرنسية، إلا أنها تُعتبر مؤشراً إلى ميل قد يجتاح الجمهورية ويوقع المؤسسة الحاكمة في مشكلة خطيرة، ومن المؤكد أن هذا سيكون له انعكاس كبير على الانتخابات الرئاسية في عام 2022.

* «بيل فيرتز»