سيادتك مثقف؟ ما شاء الله، ربنا يزيد ويبارك. لكن بأي معنى؟

هناك تعريف شامل للثقافة يقدمه علماء الأنثروبولوجيا، وهو أن الثقافة كتلة مركبة من الأفكار والقيم والتقاليد وأنماط السلوك والفنون والمعتقدات الدينية تمتاز بها جماعة معينة، وتحرص على نقلها من جيل إلى جيل. وبهذا المعنى يكون الجميع مثقفا، فكل البشر أبناء "ثقافة" منحتهم عصارتها عن طريق النقل المباشر لأنماط السلوك وللأفكار والمعتقدات، التي تتحكم في المقبول وغير المقبول في مجتمع بعينه، أي تتحكم في فكرة المشروعية.

Ad

لكن مع ذلك نحن نستخدم كلمة مثقف غالبا للإشارة إلى شخص يحمل معرفة ويمارس فعل التفكير بصوت مرتفع، أي لديه القدرة على التعبير عن أفكاره بصورة نظرية، ما يعني أنه قادر على التعامل مع المفاهيم والأفكار المجردة.

كما تطلق كلمة مثقف في مجتمعاتنا العربية على كل من له علاقة بالعمل الفني والأدبي. وكذلك تطلق كلمة مثقف على الفاعل الثقافي في مجالات الفنون والآداب والفكر، فإن كنت من مرتادي دار الأوبرا أو من الحريصين على حضور معارض الكتاب وحفلات التوقيع، فأنت مثقف، وإن كنت ممن يديرون النشاط الفني والثقافي بمنطق الشركة الاستثمارية الربحية، فأنت أيضا مثقف.

كم تبدو كلمة مثقف غامضة! وهي في ثقافاتنا العربية تشمل تعاريف أخرى لا تتصل بالمحتوى المعرفي للشخص، أو بقدراته على الفهم والتحليل والتخصص في مجال فكري بعينه.

وبعيدا عن تعقيدات فكرة المثقف، أود في هذه المقالة وضع خط يفصل بين المثقف: المبدع/المفكر/الباحث/ القارئ المختص، وبين الفاعل الثقافي: الإداري/ المستثمر في مجلات الثقافة.

يتورط كثير من المثقفين في عالم المؤسسات الثقافية بالمعنى الاستثماري الرأسمالي الساذج، وهو أمر محفوف بالمخاطر. فالمثقف هو المادة التي يستثمر فيها الفاعل الثقافي، وهذا الفاعل الثقافي لابد أن يكون مثقفا أيضا، لكن في مجال الإدارة والاستثمار المعرفي، وليس في مجالات الفكر والفن والإبداع.

الأزمة في الثقافات العربية أن المثقف المختص في مجالات الفكر والفن والكتابة الأدبية يضطر اضطرارا إلى أن يؤدي دور الفاعل الثقافي، فيجبر على التحول إلى إداري ومستثمر. يشير هذا التحول إلى غياب الفاعلين المختصين في إدارة العمل الثقافي والفني، لكنه في الوقت نفسه أصاب هوى في نفوس كثير من الكُتاب والمبدعين الأذكياء، بحيث تحول بعض المثقفين ــ غالبا على حساب نشاطه التخصصي ــ إلى دينامو ثقافي استثماري ربحي، ليملأ الفراغ الذي تركه الفاعل الثقافي الإداري الغائب.

اكتسبت هذه الحالة المربكة مشروعية منذ ظهرت إلى الوجود تركيبة الوزير/ الفنان، قبل ذلك اضطر النقاد والمفكرون إلى لعب دور إداري في مؤسسات صناعة الكتاب وفي مجلات النقد والفنون.

لا أقول إن على المثقف التحول إلى راهب منعزل، لكن يجب ألا يتحول دوره الثقافي إلى طاحونة إدارية منهكة ومعطلة لقدراته، وهو أمر ينتبه له المثقفون الكبار: هل سمع أحدكم أن جاك دريدا أو ميشيل فوكو أو إدوارد سعيد مثلا كانوا لاهثين وراء منصب وزير؟ أو أنهم أقاموا جمعيات ربحية للإنتاج الثقافي؟ ستجد أسماءهم في مساحة المستشار الذي يعطي خبرته بحسب التخصص، لكن لن تجدهم فاعلين ثقافيين بالمعنى الإداري الاستثماري. الأمر في الغرب أوضح كثيرا، لكن في شرقنا العظيم يضطر الكُتاب والمثقفون إلى لعب الدورين، بحسن نية أحيانا، وبنفعية ووصولية أحيانا أخرى.