في تلك الأيام لم يكن للشارع صديق كفلسطين، تحكي أرصفة الأحياء والمدن صوت ذاك الوطن المغتصب، ينتقل تعب أهلنا وألمهم في القدس ونابلس وبيت لحم وحيفا وعكا وغزة إلى البحرين دون وسيط إلا المذياع الذي ينقل كل الأحداث من محطات متعددة وأهمها "صوت العرب".

هي وهو وهم كلما هبت شوارع الوطن الممتد، حتى الموجة الأخيرة، ملؤوا الفضاء بالهتافات لفلسطين حاملين علماً واحداً وروحاً واحدة، صوتهم ربما يبدو بعيداً، ولكن تبقى فلسطين تسكنهم ككل البشر من فنزويلا حتى آخر شارع وحي وبلدة.

Ad

ذاك كان جيلا يمضي من شوارع المحرّق وعند الجسر الأول، حيث لم يكن هناك إلا هو، يتعانقون مع الجموع القادمة من المنامة، وكأنهم يقولون للنوارس قولي لأهلنا هناك إن هذه الأرض هي من تحس بوجعهم.

لم يبقَ للكثيرين من ذاك الجيل سوى مزيج من الذكريات والأحلام، في الأولى يعودون لسنين مليئة ربما بالمحبة وربما بالوفاء وربما بالانتماء بمختلف أنواعه، الانتماء إلى وطن واسع، تشابهت الشوارع وتفاصيل الأحياء على اختلاف المناطق والتاريخ المعماري الذي هو انعكاس للتاريخ البشري، كما يقول ذاك المعماري المغمس بالمشاعر الإنسانية في إحدى مقابلاته.

تأتي الهتافات عالية، ويرتفع الصوت تدريجيا كلما اقترب الحشد في الشارع الذي يطل عليه بيتنا، بل هو بيت لكل العائلة، هكذا كانت كثير من بيوت البحرين، نعرف جميعا أنها تظاهرة منددة بالاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، كانت قريبتي التي تكبرنا بعض الشيء شديدة الحماس للقضايا العربية ومناهضة للاستعمار بكل أشكاله، وهي جزء من هذه الحشود المستمرة، كانت كما كثيرات من ذاك الجيل من نساء البحرين والخليج متابعات لقضايا الوطن الذي كان أوسع من أحلام مراهقتهن.

رجال ونساء لا تفرقهم المساحات ولا الفتاوى القادمة من العصور المتحجرة التي سماها بعض الجهلة بأنها ذكرت في الكتب السماوية، ليجعلوا من أنفسهم وسطاء بين البشر والخالق، يسيرون جميعا يداً بيد، وهذا الآخر أصبح محرماً حسب شيوخ الفتاوى!

لم تتوقف تلك حتى عندما نالت البحرين استقلالها كانت فلسطين حاضرة في وجدان هذا الشعب، رفعوا شعار مقاطعة البضائع حتى حاول بعضهم أن يضع فلسطين ضمن القضايا المستعصية، وردد بعضهم "بلادكم أولاً" كشعار باهت أصيب بالعدوى منه كثير من الحكم والحكومات، فأصبح ممجوجاً ومملاً كما أحاديثهم اليومية في واجهات الصحف.

مرت السنون ولم يتوقف هذا الجيل، ومن بعده من حملوا فلسطين في قلوبهم، ارتحل الطلاب إلى الجامعات العربية التي احتضنتهم من القاهرة حتى بغداد، وسريعا أنشأ الطلاب اتحادهم "الاتحاد الوطني لطلبة البحرين"، اختلف بعضهم في الفكر وتخاصم البعض الآخر، ولكن بقي الاتحاد يجمعهم من شيوعيين إلى ماركسيين إلى بعثيين وقوميين، حتى الماركسيين الجدد وبعض التروتسكيين... في كل حفلة لهم كانت فلسطين حاضرة "سأغني يا فلسطين سأغني".

لم تنتهِ المسيرة هنا، بل تشكلت في البحرين العديد من الجمعيات ضد التطبيع، وبقي المجتمع المحلي ومنظماته وهيئاته لا تبعد عن قلب القدس كما في الكويت وفي دول خليجية أخرى، وكنا جميعا على اختلاف مشاربنا وقناعاتنا لا نجتمع إلا على فلسطين ولا تجمعنا إلا هي.

فجأة راح بعض الإعلاميين والمأزومين والمأجورين وحملة المباخر يرددون ما لنا وما لفلسطين حتى تدنست أرضها، كما يقول أهلنا هناك، بعربات تحمل أسماء لدول خليجية ومواطنين يحتسون القهوة في شوارع تل أبيب عجبي! وتتسابق الفرق الرياضية وبعض الجمعيات المشبوهة وغيرها كلها بأسماء وادعاءات وتبريرات، ولكن كلما تأزمت الأمور نهض الشارع الخليجي ليقول (لا)، وتبقى فلسطين تسكن قلوب كثيرين من أهل أرض الملح، وعاد هو يردد "سأغني سأغني يا فسلطين".

* ينشر بالتزامن مع "الشروق" المصرية