يصعب على المرء أحياناً تصور عودة الأرض المحروقة إلى طبيعتها السابقة وتهييئها للإنبات مرة أخرى، كذلك الأمر بالنسبة إلى الأمم، ورغم وجود أمثلة حية على فشل بعضها في النهوض من كبوتها وواقعها المزري، توجد تجارب أخرى استطاعت فيها البلدان كسر هذه الصورة النمطية.

بالنسبة إلى بلد مثل فيتنام، الذي عانى كثيراً الاستعمار الأجنبي، وتم الدفع به إلى حروب إقليمية وحتى الاقتتال الداخلي، لم يكن من المتوقع أن تقدم البلاد تجربة فريدة، خصوصا أنها لم تحظ بدعم الغرب مثل كوريا الجنوبية، واليابان، وألمانيا (مرت بسيناريوهات مشابهة).

Ad

وربما اعتقد البعض أنه بعد انتهاء حربها مع الولايات المتحدة، ستتحول فيتنام تحت الحكم اليساري إلى كوريا شمالية جديدة في المنطقة؛ بلد منبوذ لا علاقات دبلوماسية أو اقتصادية له، ينتهي الأمر به بالتركيز على التقدم في المجالات العسكرية دون غيرها.

لكن لم تمضِ الأمور على هذا النحو، ففيتنام الألفية الثالثة هي واحدة من أسرع الاقتصادات نمواً في العالم، وأصبحت بلداً متوسط الدخل، بعدما عاش سكانها في فقر مدقع، والأكثر أنها تطمع في التحول إلى اقتصاد متقدم خلال المستقبل القريب، بحسب "بي بي سي".

تاريخ من الصراعات

• شرعت فرنسا تدريجياً في احتلال منطقة الهند الصينية التي تضم كلاً من فيتنام، وميانمار، وكمبوديا، ولاوس، وتايلند خلال الفترة من عام 1859 إلى 1883، قبل أن تستعيد اليابان السيطرة عليها عام 1940.

• في عام 1945، وبعد اعتلاء هو تشي منه السلطة، أعلن تأسيس جمهورية فيتنام الديمقراطية واستقلالها عن أي تبعية، لكن في العام التالي، سعى الفرنسيون لاستعادة سيطرتهم، وحينئذ اندلعت حرب الهند الصينية الأولى أو ما يعرف بـ"مقاومة الاحتلال الفرنسي".

• انقسمت البلاد إلى قسم شمالي وآخر جنوبي عام 1954، واحتدم الصراع بينهما على مدار عقدين في ما عرف باسم "حرب فيتنام" أو حرب الهند الصينية الثانية التي دعمت فيها الولايات المتحدة الجنوب بقوة.

• رغم تدخل القوة الاقتصادية والعسكرية الأكبر في العالم، سقطت المدن الجنوبية واحدة تلو الأخرى حتى سيطرت القوات العسكرية للحركة اليسارية على العاصمة سايغون، وفي عام 1976 تمت إعادة توحيد البلاد تحت اسم "جمهورية فيتنام الاشتراكية".

كيف فعلتها فيتنام؟

• في 2018، نما اقتصاد البلاد بنسبة 7.1 في المئة، وهي أعلى وتيرة منذ سنوات وواحدة من بين الأفضل في العالم، لكنها ليست غريبة على بلد ينمو ناتجه المحلي الإجمالي بشكل مطرد منذ ثمانينيات القرن الماضي، فكيف فعلتها فيتنام؟

• عقب انتهاء الحرب وتوحيد البلاد، كانت فيتنام واحدة من أفقر بلدان العالم، وبلغ حجم الناتج المحلي الإجمالي 18.1 مليار دولار في عام 1984 (مقارنة بـ220 مليار دولار حاليا) وتراوح نصيب الفرد منه بين 200 و300 دولار.

• لكن الأمور تبدلت بعد عامين، عندما أطلق الحزب الحاكم مبادرة "دوي موي" (تعني الابتكار أو التجديد) للإصلاح السياسي والاقتصادي، والتي يقول البنك الدولي إنها كانت السبب الرئيسي لتحفيز النمو الاقتصادي السريع والتنمية في فيتنام، وتحويلها إلى بلد متوسط الدخل.

• يعزو المراقبون التفوق الفيتنامي السريع إلى ثلاثة عوامل رئيسية، هي: الجدية في تحرير التجارة (رغم الأفكار الاشتراكية الحاكمة)، وثانيا تخفيف القيود التنظيمية وخفض تكلفة ممارسة الأعمال التجارية، وثالثا الاستثمار في رأس المال البشري والمادي، بحسب المنتدى الاقتصادي العالمي.

• مع تبني المفاهيم الانفتاحية، أبرمت فيتنام العديد من اتفاقيات التجارة الحرة على مدار العشرين عامًا الماضية، مع شركاء إقليميين ودوليين مثل اليابان وأميركا، وانضمت إلى منظمة التجارة العالمية عام 2007، وبفضل ذلك تراجعت التعريفات الجمركية على واردات وصادرات البلاد.

• دفعت الإصلاحات الحكومية البلاد نحو الاقتصاد المفتوح، وفي عام 1986، أصدرت فيتنام أول قانون خاص بالاستثمار الأجنبي، ما مكن الشركات الخارجية من العمل في الداخل، وتم تعديل القانون عدة مرات لتبني مناهج أكثر دعما للاستثمار بحسب "بيكر آند ماكينزي".

• خلال الفترة من عام 1988 إلى 1990، بلغت الاستثمارات الأجنبية المباشرة في البلاد ما قيمته 1.6 مليار دولار، لكن في 2015 سجلت البلاد استثمارًا أجنبيًا مباشرًا قدره 11.8 مليار دولار، من أكثر من 100 دولة.

• يبلغ التعداد السكاني للبلاد نحو 95 مليون مواطن اليوم، وكان سيشكل هذا العدد عبئاً على الدولة لولا أنها أدركت الأمر مبكرًا، حيث وجهت الحكومة جزءًا كبيرًا من الاستثمارات العامة إلى التعليم الابتدائي، والبنية التحتية (بما في ذلك الإنترنت).

• التقدم الفيتنامي كان ملحوظًا في المؤشرات الدولية، وتقدمت البلاد من المرتبة 77 في تقرير التنافسية العالمي للمنتدى الاقتصادي عام 2006 إلى المركز 55 في عام 2017، كما تقدمت في مؤشر سهولة ممارسة الأنشطة التجارية إلى المركز 68 مقارنة بالمركز 104 في 2007.

• منذ عام 2010، لم يقل نمو الناتج المحلي الإجمالي للبلاد عن 5 في المئة سنويًا، ما ساهم في تعزيز نصيب الفرد بشكل كبير، ليقفز إلى 2343 دولارًا في 2017، ومع تعديله وفقًا للقوة الشرائية للعملة المحلية، فإنه يتجاوز 6 آلاف دولار.

• تحسنت البنية التحتية في البلاد كثيرًا، وبحلول عام 2016 أصبح بمقدور 99 في المئة من السكان استخدام الكهرباء كمصدر رئيسي للإضاءة، مقارنة بـ14 في المئة فقط في 1993.

• في المناطق الريفية، يستفيد 77 في المئة من السكان بخدمات الصرف الصحي مقارنة بـ36 في المئة قبل 13 عامًا، كما ارتفع معدل الوصول إلى المياه النظيفة في هذه المناطق من 17 في المئة إلى 70 في المئة، ويصل إلى 95 في المئة في الحضر.

الآفاق لاتزال مشرقة

• رغم الصراع القديم حافظت فيتنام على علاقة طيبة مع واشنطن، حتى انها استقبلت المدمرة "جون ماكين" (الاسم جاء تيمنًا بأسير أميركي سابق لدى فيتنام) عام 2010، ومع ذلك يرى خبراء أنها ستسعى للموازنة في علاقتها بين أميركا والصين.

• يقول البنك الدولي، إن آفاق الاقتصاد الفيتنامي على المدى المتوسط تحسنت مؤخرًا، ويعتقد أن الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي سينمو في 2019 و2020 بوتيرة أقل نسبيًا مما فعل في 2018، بسبب التباطؤ المتوقع للطلب العالمي.