الخوف كل الخوف لدى البعض من فقدان الذاكرة، إما بسبب العمر أو بسبب الأمراض التي برزت في السنوات الأخيرة، وانتشرت ربما لزيادة في الوعي والمعرفة بها الآن أكثر من الوضع في الماضي، حيث كان يقال عن كل شخص بدأ يفقد ذاكرته إنه "خرف"!

فقدان الذاكرة يعني أن يتحول الإنسان إلى الفراغ، لا تاريخ ولا طفولة ولا مراهقة مليئة بالمغامرات، ولا شباب مفعما بالحيوية والبحث عن الجديد، ولا سن رشد فيه لحظات من تحقيق الذات أو حتى السير بذاك الاتجاه.

Ad

أن تفقد الذاكرة يعني أن ترحل في متاهات لا نهاية لها أو أن تُحبس في بقعة شديدة الظلمة أو حتى دائرة من العدم، لا أصدقاء كانوا عند الطفولة يلعبون معا في أزقة الحي أو على أطراف المدينة في ملاعب من التراب، ولا بنات صغيرات بظفائر يجرينَ في حوش البيت ربما ليس بيتهن المتواضع بل بيت للجيران، فالكل في الماضي وفي الأحياء أهل ولا أبواب موصدة.

أن تفقد الذاكرة يعني ألا تعود تعرف تلك اللحظات الحميمة التي لاحظت فيها نظرات إعجاب عندما كان المتعارف عليه هو، نظرة فإعجاب فصداقة فزواج... رغم أن ليس كل الحب الأول يفضي إلى الزواج، بل كثير منه يبقى في الذاكرة في مكان ما حيث مخزن لحظات السعادة البريئة التي كانت. فجأة تتحول إلى شخص بلا ذاكرة، وهنا الحسرة التي لن تعرفها على أن تلك البقعة المضيئة التي كنت تنبش فيها كلما تلبدت غيوم الحياة، هي الأخرى لم تعد هناك وتبخرت مع كل الذكريات الأخرى. بلا ذاكرة يعني أن تنظر إلى صورة بالأسود والأبيض لطفلين ولد وبنت؛ الولد ربما في الخامسة من العمر ببدلة وربطة عنق مبتسم كالطفل السعيد بأن أصبح في ثياب رجل فجأة حتى لو لم تتكرر تلك اللحظة، وطفلة جالسة على كرسي صغير أمامه وهي ربما في سنتها الأولى بشعر أسود داكن وكثيف وعينين واسعتين وكأنهما يخزنّ كثيراً من الصور. الصورة في أستوديو كما كانت تلك في سنوات قديمة، حيث مزهرية بها ورد صناعي، ولوحة في الخلف ربما لغابة من الشجر، تبحلق في الصورة كل يوم وهي هناك على تلك الطاولة المتصدرة للصالون، تكرر النظر وتتساءل: من هذان الطفلان ولا تعرف أن تلك الطفلة أو ذاك الفتى الصغير قد يكونان أنت أو هي. تحضر الوجوه الكثيرة تحلق حول مائدة غنية من الطعام، تبقى أنت الوحيد الذي لا يعرف أسماء كل تلك الأطعمة، ولا تدرك لذة مذاقها في حين يمطر الحاضرون تلك السيدة المتوسطة العمر بعبارات المديح على خبرتها في الأكل التقليدي لتلك الجزيرة، تبقى أنت في عالم لا يعرف عنه أحد، يتساءل بعضهم: هل يعرفنا أو تعرفنا؟ وتأتي الإجابات ربما أحيانا أو ربما لا أبداً.

تدريجياً، تتسع المساحات البيضاء وتتناقص الصور والكلمات والذكريات، ربما لا يدرك أحدهم أن البقاء دون ذاكرة هو كالموت، أو ربما يكون الموت أفضل وأكثر راحة، فهو مجرد شبر في شبر، ويطمر عليك التراب أو حتى تنزل جثتك لتوضع مع بقايا كثير من أحبتك وأهلك، ثم يغلق القبر على الظلمة، وتتحول أنت إلى مجرد اسم على حجر يقال هنا يرقد فلان الفلاني. ومع الزمن تقسو الشمس على الكتابة تلك فتبدأ الأحرف بالاختفاء كما أنت. أن تكون بلا ذاكرة يعني أن توضع أمام جهاز التلفزيون فتشاهد ما هو فيلم لكنك لا تعرف ما هو، وتراه لا أكثر من شخوص متحركة، لا تعرف جاك نيكلسون ممثلك المفضل عندما يظهر بعبقريته في فيلم ترجم إلى العربية "حلق فوق عش الوقواق" أو شيء من ذلك. لا تستطيع حتى أن تتذكر أنك في يوم ما شاهدت هذا الفيلم مرة واثنتين وثلاثا، ورحت تبحث عن ذاك المشفى للأمراض العقلية في الولايات المتحدة عاصمة التحضر وحقوق الإنسان، حيث تنتهك آدمية البشر كل لحظة في ذلك المشفى، ثم يمر بك دستن هوفمان في فيلمه الشهير وهو شاب قبل أن يصبح من أهم من عرفتهم هوليوود. كان "الخريج" أحد الأفلام التي أثرت فيك لشدة صدمتها. حتى عندما يفكر المحيطون بأن عشقك للعبقري الآخر أحمد زكي في فيلم "الهارب" قد ينشط ما تبقى من الذاكرة، تجلس أنت غير مدرك ما يحدث وغير مقدر كم خسرت السينما العربية برحيله.

بلا ذاكرة يعني أن تلك الحياة المفعمة بذاك الكم من النور قد أسدلت الستار عليك فجأة، وحولتك إلى مجرد دمية متحركة تأكل وتشرب وتقوم بكل الواجبات العضوية الأخرى، ولا تعرف أي شيء عن أي شيء. كم محزن أن يتساقط أحبتنا في تلك البقعة التي أطلقت عليها الكثير من الأسماء فيما اختصرتها في كلمتين هي مجرد بلا ذاكرة.

* ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية.