يضج الفضاء بقنوات لا حصر لها، تكثر الصور والبرامج المكررة، معظمها للتسلية وحتى الثقافية منها تحولت أيضا إلى شكل من أشكال المحاباة لبعض الكتّاب، وصارت حكراً على بعض الفنانين والمثقفين من الأصدقاء والمقربين وبالطبع الأهم هو الولاء!

هناك ذاكرة حاضرة جداً، وهي التغطية لحرب الخليج الثانية، حيث كانت الـ"سي إن إن"، والـ"بي بي سي" وغيرهما هي الوسائل الوحيدة المتاحة لمعرفة ما يجري على بعد كيلومترات بسيطة من الخليجيين الذين كانوا على توجس إن لم يكن خوفا شديدا، فهذه منطقة لم تعرف الحروب والنزاعات ولا حتى التظاهرات السلمية.

Ad

كثرت حينها النكات من الجيران وغيرهم حول الخوف الذي اعترى شعوب المنطقة، فردد عادل إمام أن آخر معركة عاشتها منطقة الجزيرة والخليج كانت هي معركة بدر، ضحك الجمهور حينها كما هو حالهم مع "قفشاته".

توعدت حكومات الخليج بأن تعمل على أن تكون لها وسائلها المستقلة فكان أن بدأت واحدة خلف الأخرى، هي في معظمها تابعة للحكومة أو بعض المتنفذين القريبين من المسؤولين، أو حتى هم من "الواجهات" وهؤلاء كثر عند العرب، فلكل وزير أو مسؤول أو أمير واجهة، أي بمعنى شخص يقوم بما يريده هذا المسؤول دون أن يكون هو في الصورة!

انتشرت القنوات وتنافست فيما بينها حتى المحطات الإخبارية التي راحت تتنافس في التغطيات الحية والمتابعات والتحليلات فيما ادعت أنها صوت هذه الجماهير العريضة من المغرب حتى أقصى بحر العرب، هي أصبحت واجهتهم وبرلمانهم وصحفهم الحرة ووسائلهم للتواصل، وتبادل الآراء والمعرفة، فوجئ العرب بهذه الصحوة وتنفس كثيرون بعضاً من الهواء النقي أو هكذا اعتقدوا، راحوا يرددون أخيراً أصبحت لنا محطات تلفزيونية حرة، هي لنا وليست لحكوماتنا والمتنفذين ورؤوس الأموال.

طالت فرحتهم بعض الشيء لكنها ككل الأحلام والآمال تتحول سريعا إلى سراب، عشق العرب السراب حتى تغزلوا به أحياناً، لأنهم ينامون ويصحون بحثا عنه من المهد إلى الحد.

كثرت التحديات والتحليلات عن هذه المحطات ودورها وما تقوم به، أحدهم قال إنهم يشوهوننا أو ينشرون غسيلنا القذر، هم يأتون بالأكثر حماقة من بيننا ليتصارعوا على الشاشات وعلى الهواء كما الديكة، المضحك المبكي أن هذه الصراعات تتحول أحيانا إلى ضرب بالكراسي ورمي الآخر بأكواب الماء التي توضع أمام الضيوف، في شكل من أشكال الهمجية في ظاهرها.

ولكن ورغم كل ذلك يبقى السؤال الذي لا يطرحه الكثيرون، ولا حتى من باب الفضول وحب المعرفة، رغم كل هذا الازدحام الفضائي الخليجي: لماذا تبقى شعوب الخليج في صورها النمطية، ولماذا لم تستطع كل هذه البرامج واللقاءات والحوارات أن تعرف العرب والعالم بطبيعة هذه المنطقة، وما جرى فيها وحولها من تحولات سريعة؟

فلا يمكن أن تتعرف على شخص إلا ويطرح الأسئلة المتكررة، ولو بشكل مبطن أو غير مباشر، وهي: هل تلبسين العباية في بلدك؟ وهل تستطيعين الخروج بهذا اللبس؟ أو حتى هل ترتادون المقاهي والمطاعم؟ وهل تجلس النساء والرجال في المكان نفسه؟

كثيرة هي الأسئلة التي يرى البعض أنها نمطية ويفسرها آخرون بأنها تعالي العرب على عرب النفط! ولكن تبقى الفكرة الأهم، وهي أن هذه المنطقة التي فضلت التقوقع لسنين وما لبثت أن شرعت أبوابها على العالم عبر نوافذ فضائياتها لم تستطع أن تستثمر هذه القنوات لتكثيف المعرفة بشعوب وعادات وتقاليد وحضارات هذه المنطقة. وحتى عندما يفعلون فهم إما يبالغون في المديح وإما يكثرون من التسطيح الممجوج فيفقد المشاهد رغبته في المتابعة أو يغلق كل محطاتهم، ويعود إلى تلك المحطة نفسها التي قال كثيرون عنها إنها الأصدق من محطات كل العرب، رغم أنها ليست بريئة!

لا يمكن أن يكون كل هذا الازحام من البرامج البعيدة عن الواقع أو المتملقة أو السطحية هو مجرد مصادفة أو جزء من آلية التسويق التي هي ليست حصرا على منطقتنا ومحطاتنا، لا يمكن إلا أن يفكر أحدهم بأن هناك سياسة لتقسيم أوسع ولبقاء العرب لا يعرفون العرب ولبقائهم بعيدين عنهم رغم أن ما يجمعهم الكثير، وما الأدب الخليجي المترجم الذي ينال الشهرة إلا تعبير صارخ عن الجهل بهذه المنطقة ووضعها في إطار الإثارة من مجتمعات ظاهرها محافظ ومتدين وباطنها ماجن ومنحل، روايات ومجموعات قصصية ترجمة إلى لغات حية عدة ليست سوى صورة من صور تحويل حتى الأدب إلى مادة استهلاكية رخيصة، وفضاء مزدحم بالجهل وقلة المعرفة.

* ينشر بالتزامن مع "الشروق" المصرية.