استرعى تدخل موسكو في سورية الكثير من انتباه العالم، فلطالما تخطت رؤية الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في المنطقة حدود سورية وحدها، فمنذ تولّى بوتين السلطة، وضع ضمن أولوياته استعادة صورة روسيا كقوّة عظمى، وترتّب عن هذا الهدف عودة إلى المناطق التي اعتادت أن تكون فيها موسكو جهة فاعلة أساسيّة.

تطمح روسيا في الوصول إلى البحر الأبيض المتوسط، وهذا جلّ ما يقدّمه الحلفاء في شمال إفريقيا.

Ad

وقد حاولت موسكو الحصول على وصول بحري منذ عهد كاترين العظمى، التي اعتقدت أن البحر المتوسط شكّل مكوناً أساسياً في جعل روسيا قوةً عظمى، وفي هذا السياق لم تتغيّر تطلّعات الكرملين نسبيّاً حتى هذا اليوم، إذ ترى موسكو أنّ الوصول إلى البحر المتوسط قد يحوّل روسيا إلى جهة فاعلة أساسية في منطقة النفوذ الأوروبي، وقد يقلل أيضاً من قدرة الولايات المتحدة على المناورة.

وتتجلّى هذه الصورة أيضاً في البحر الأسود وبحر قزوين حيث تتنافس موسكو للنفوذ، وقد وضعت موسكو عتادها العسكري في سورية في محاولةٍ لإنشاء منطقة محرّمة وحققت نجاحاً جزئيّاً، ويعقّد موقع موسكو العسكري قدرة الولايات المتحدة على المناورة.

ويمكن أن تساعد زيادة النفوذ في شمال إفريقيا في تحقيق هذا الهدف عبر تأمين إمكانية ولوج إضافية إلى المرافئ على طول البحر الأبيض المتوسط، وبالتالي توسيع نطاق المنطقة المحرّمة من الجو إلى المياه، ويتمثل الهدف النهائي لمختلف أجزاء المنطقة المحرّمة في حرمان حرية التصرف، أو بمعنى آخر في الردع، وتعمل موسكو على تحقيق هذا الهدف في المنطقة.

خلّف الانسحاب الأميركي من المنطقة الذي بدأ في عهد إدارة أوباما ويستمر مع إدارة ترامب فراغاً سهّل على بوتين التدخل وترسيخ نفوذه، وما كانت لتتوافّر له هذه الفرص في ظلّ وجود أميركي أقوى. فخلافاً للولايات المتحدة، لا تضع موسكو أي شروط مسبقة على دبلوماسيتها، وتميل هذه الشروط المسبقة، مثل تحسين حقوق الإنسان أو حظر مبيعات الأسلحة الثانوية، إلى دعم ما يفضّله الحكّام الإقليميون.

منذ «اتفاقية كامب ديفيد»، شكّلت مصر حجر الزاوية للسياسة الأمنية الإقليمية الأميركية، ولكنّ روسيا طورت أيضاً العلاقات مع مصر بطرق متعددة في السنوات الأخيرة، فشهدنا نشوء علاقات ثنائية جديدة في المجالات السياسية والعسكرية والاقتصادية، من خلال استغلال تدهور العلاقات المصرية مع إدارة أوباما، وفي غضون ذلك، يبدو أن القاهرة مهتمة فعلاً بالتنويع وعدم الاكتفاء بالولايات المتحدة، ولا ينبغي أن يُهمِل واضعو السياسات احتمال التوجّه نحو روسيا.

وتستمر التجارة الثنائية في النمو، وتعزز المنطقة الصناعية الاقتصادية التي أُنجزت مؤخراً مصالح موسكو السياسية في مصر بشكل متزايد، ووقّع البلَدان اتفاقاً يسمح لموسكو ببناء أول محطة للطاقة النووية في مصر، ونظّما مناورات بحرية مشتركة وتدريبات عسكرية أوسع نطاقاً، وازداد اعتماد مصر على واردات الأسلحة الروسية لتزويد جهازها العسكري والدفاعي، وفي هذا السياق أصبح موقف موسكو بشأن الرئيس السوري بشّار الأسد يحظى بقبول مصر، ورفضت القاهرة في العام الماضي طلباً أميركيّاً بإرسال قوّاتٍ مصرية إلى سورية.

وتنشط موسكو في ليبيا، وتميل أكثر نحو التعاون مع خليفة حفتر، قائد الجيش الليبي الذي يسيطر على شرق ليبيا الغني بالنفط، ولكن بوتين بنى أيضاً علاقاتٍ قوية مع حكومة السرّاج كجزءٍ من نهج «الصداقة مع الجميع» الذي يعتمده بوتين في المنطقة. وفي غضون ذلك، لا تزال الولايات المتحدة غائبة إلى حد كبير في ليبيا، لذلك تحتلّ روسيا موقعاً مثالياً لممارسة النفوذ هناك في ظل غياب أميركا.

وفي هذا السياق أفاد الجنرال توماس د. والدهاوزر من فيلق مشاة البحرية الأميركية في شهادته في فبراير من هذا العام أن موسكو تسعى إلى إبرام عقود اقتصادية وعسكرية والوصول إلى شاطئ البحر المتوسط، ويزيد هذا المسعى الأخير من إمكانية وصول روسيا إلى الحدود الجنوبية لأوروبا، وهو أمر بالغ الأهمية للتأثير في مسألة اللاجئين في مختلف أنحاء أوروبا، ووفقاً للمفوضية الأوروبية تشكّل ليبيا «نقطة الانطلاق لـ90% من أولئك الذين يسعون إلى السفر إلى أوروبا.

لطالما بقيت الجزائر في معسكر موسكو الذي يضم أقرب الحلفاء الإقليميين، فمنذ عام 2001، تعاون البلدان بشكلٍ أساسي في القطاع العسكري، وفي عام 2006، ألغى بوتين ديناً لموسكو قيمته 4.7 مليارات دولار يعود إلى الحقبة السوفياتية، ووقّع اتفاق أسلحة بقيمة 7.5 مليارات دولار شمل برنامج تحديث وتدريب عسكريين. واستمرت موسكو على مر السنين في بيع الأسلحة إلى الجزائر وتزويدها بالمعدات العسكرية، واتّسع نطاق التعاون العسكري في عام 2016 ليشمل تبادل المعلومات الاستخباراتية حول الجماعات الإرهابية في شمال إفريقيا. وتقرّبت تونس والمغرب، الحليفان التقليديان للولايات المتحدة، من موسكو في السنوات الأخيرة، ففي تونس يتجلّى نفوذ موسكو بشكلٍ خاص في قطاع السياحة الذي يُعتبَر حيويّاً لاقتصاد البلاد، والذي انتعش ببطءٍ بعد هجوم سوسة عام 2015 الذي أسفر عن مقتل 38 سائحاً أجنبيّاً، وبالفعل من المألوف جدّاً سماع أصحاب المتاجر التونسية يتحدثون باللغة الروسية مع الزبائن.

وفي عام 2016 زار ملك المغرب محمد السادس موسكو للمرة الأولى منذ عام 2002، ووقّع اتفاقاتٍ لتحسين العلاقات الاقتصادية، ومؤخّراً بدأت موسكو تدعم برنامج الطاقة النووية المغربي، وقد ترتبط سياسة الرباط بخيبة الأمل المغربية من التعاطف المتصوَّر لكل من إدارتيْ أوباما وترامب مع «جبهة البوليساريو» وافتقارهما إلى الحماس إزاء الموقف المغربي بشأن النزاع على الصحراء الغربية.

إن المفارقة هي أن «جبهة البوليساريو» وكيلة للسوفيات في الحرب الباردة، ولكنّ ذلك لم يشكّل عائقاً يصعب على موسكو تخطيه للوصول إلى الرباط.

مخاطر سياسية وأمنية

لا تزال ليبيا المرشّح الأساسي لخطوة موسكو الاستراتيجية التالية في شمال إفريقيا، وتشمل البلاد بحدّ ذاتها أولويات متعدّدة للسياسة الخارجية لموسكو، على سبيل المثال: سبيل الوصول إلى أسواق النفط والأسلحة، والوصول إلى البحر المتوسط، والضغط الإضافي على أوروبا من خلال التحكم في تدفّق اللاجئين، ويولّد غياب الولايات المتحدة فراغاً يسمح لموسكو بترسيخ نفوذها من دون منازع.

بالإضافة إلى ذلك تُعتبَر مصر وليبيا حيويّتين من الناحية الاستراتيجية لأنّهما تتيحان إمكانية الوصول إلى المنطقة بأكملها، وبذلك تشكّلان المدخل المثالي لاكتساب النفوذ في أوروبا ومعبراً للوصول إلى عمق إفريقيا، علماً أن موسكو تتمتع بالفعل بنفوذ كبير في مصر، وهو اتجاه من غير المرجح أن يضعف، وبعد مصر وليبيا يثير نفوذ موسكو في المغرب قلقاً أيضاً، إذ يُعتبر أهم حليف إقليمي للولايات المتحدة بعد مصر.

وأخيراً أشار أوليغ أوزيروف، نائب مدير شؤون إفريقيا في وزارة الخارجية الروسية وسفير روسيا لدى المملكة العربية السعودية، إلى أن بلدانا إفريقية طلبت مساعدة روسية بعد ملاحظة «نجاح روسيا في عمليات مكافحة الإرهاب في سورية». ويُظهر تعليقه التأثيرات البعيدة المدى لعمليات موسكو في سورية.

ويتمثل الخطر السياسي الناتج عن تنامي نفوذ موسكو في الفقدان المستمر للمصداقية الأميركية والغربية بشكلٍ أكثر شمولاً، في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا التي تصبح مكسباً روسيّاً.

أما الخطر الأمني بالنسبة إلى المنطقة فيتمثل بعجز موسكو في النهاية عن إرساء الأمن الحقيقي وحل النزاع في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وعدم رغبتها في ذلك، وتتحدث موسكو عن السلام والاستقرار لكنها تستفيد من النزاع المتدني المستوى، فتسعى عبر بناء العلاقات مع كل الأطراف أن تكون الحكَم النهائي، حيث تقوم بإدارة النزاع بدلاً من حله، وتبيع الأسلحة إلى كل الجهات.

ويولّد تنامي النفوذ الروسي في شمال إفريقيا مخاطر سياسية وأمنية لأوروبا، حيث تستعد روسيا اكتساب المزيد من التأثير فيها، ويفتح هذا التنامي أيضاً المزيد من الأبواب أمام النفوذ الروسي في الشرق الأوسط، والتوسع الروسي داخل إفريقيا، في حين ستؤدي لا مبالاة موسكو إلى تعزيز النزعات المناهضة للديمقراطية بدلاً من تشجيع الإصلاح.

وعلى نطاقٍ أوسع، تُنذر هذه النزعات بالمزيد من الانقسام بين الحلفاء الغربيين، وهو الشقاق الذي ليس من شأنه إلا أن يعقّد الجهود العالمية لمواجهة الأنشطة الروسية بفعالية.